هل تساعدنا الكتب على فهم الواقع بشكل أفضل فقط؟ أم أنها بعد نقطة معينة تصبح معيناً على الهروب منه أيضاً؟ حسب رواية “الكتب التي التهمت والدي”، للبرتغالي أفونسو كروش، فإنها لا تعيننا على الهروب منه فحسب، إنما يمكنها ابتلاعنا وإنقاذنا منه إلى الأبد أيضاً.
كعادته، يسرد كروش الجانب الفريد والمؤلم في بعض جوانبه من حياة المثقف والقارئ، المنهك من تفاصيل الحياة اليومية وسنّة هذا العالم الذي لا يحب الفنون والقراءة. تبدأ الرواية بالحكاية التي تقف خلف العنوان، حكاية فيفالدو بونفين، والد إلياس بطل الرواية، الذي كان يعمل في مصلحة الضرائب، ولأنه يكره الواقع بتفاصيله المكررة كان يقضي أوقاته في قراءة الكتب، ويخفيها تحت أوراق عمله المملة، وفي إحدى الأمسيات “ولفرط انغماسه في القراءة وقوة تركيزه، ولج إلى داخل الكتاب. وعندما حلّ رئيس المصلحة بمكتبه، لم يكن موجوداً فيه”.
بالطبع لا نعرف إن كان والد الطفل إلياس بونفين بطل الرواية قد مات أو ابتلعه الكتاب بالفعل، ويوحي الراوي بشيءٍ من هذا القبيل حين يحكي عن التورية من خلال الفرق بين استخدام عبارة “لم يعد من أهل هذه الدنيا” و”مات”، وبالتالي يفتح الباب أمام احتمال أن يكون “ابتلاع” الكتب لوالده ليس سوى تورية لخسائره بسبب رفضه الرضوخ لملل الواقع وانغماسه في عالم خيال الأدب الذي لا يمكن أن يضاهيه أي واقعٍ كان.
تحمل هذه الرواية المدهشة باختصارها وخفتها – كعادة أفونسو كروش – إيقاعاً يحملنا عبر صفحات الرواية بسلاسة وغموض في الوقت نفسه، فبعد أن حصل إلياس على مفتاح مكتبة والده من جدته، أخذ يقضي ساعاتٍ طويلة في القراءة والبحث عما يقف خلف مصير والده الغامض متخذاً ذات خطواته باتجاهٍ معاكس، مبتدئاً رحلته من كتاب “جزيرة الدكتور مورو” الذي وجد على مكتب والده بعد ابتلاعه مفتوحاً على الصفحات الأخيرة، وتأخذ جولات قراءاته شكلاً مميزاً، يرويها كرحلاتٍ حقيقية في مدنٍ بعيدة وحوارات طويلة مع شخصيات التقى بها والده – قراءةً – قبلاً، فيتذكرون والده وينتبهون للتشابه في اسم العائلة.
وتذكّرنا نهايات هذه الجولات الخيالية بالتقاطع المزعج الذي لا بد منه بين عالم الخيال المتنوع الغرائبي والروتين اليومي المزهّق، وذلك عبر ناداءات والدة إلياس أو جدته له من أجل موعد العشاء، ليذكّرنا أفونسو كروش بأن ساعات انغماسنا في الخيالات المذهلة للكتب مجرد وقتٍ مقتطع بين واجباتِ الواقع الروتيني الإلزامية العبثية كموعد العشاء، وحتى إن إلياس – ومن خلفه القارئ في كل العالم – يتعرّض بسبب تأخره عن وجبه العشاء للعقوبة، التي تكون ببساطة حرمانه من ساعات القراءة هذه لأسابيع.
بالتوازي مع هذه الحكاية المذهلة، تجري حكاية أخرى في مدرسة إلياس، بين حبّه لبياتريس التي يقتنع أنها واقعة في حبه أيضاً والتي كانت “أكثر مواد المدرسة تقلباً، أكثر من كل أنواع الرياضيات، وأكثر من أي فئة من الجمل النحوية وأقسامها. وفي الوقت نفسه كانت أكثر أنواع الجغرافيا إدهاشاً، وأحسن تربية بصرية لعينيّ”، وبين صديقه بومبو الذي يحب رواية القصص “الصينية” التي يختلقها، والذي كان “قصيراً وذا شعر كثير الدهون، وفوق كل ذلك، وكأنه غير كافٍ، كانت تفوح منه رائحة خاصة أعجز عن وصفها. ربما هي رائحة أثاث قديم أو رائحة العزلة، (وهما رائحتان تختلطان بشكل ملحوظ)”، وبومبو هذا واقع أيضاً في حب بياتريس، “من ذا الذي لا يحبها؟” كما يجيبه إلياس حين يعترف له بذلك.
كعادته، يقوم أفونسو كروش بكسر القواعد التقليدية للروايات، في روايته “هيا نشترِ شاعراً” لا يخشى الخطاب المباشر، ويختم الرواية بخاتمة يتحدث فيها عن التراجع المستمر لدعم الثقافة، داعماً وجهة نظره بأرقامٍ تتعلق بحصة البرامج الثقافية من الموازنات العامة، وفي روايته “الرسام تحت المجلى” يقتحم أفونسو كروش مخيلة القارئ المبنية عن الرواية، ويعترف بأن بعض أجزاء الرواية حقيقية، وأن الزوجين اللطيفين اللذين أخفيا الرسام الهارب من مجازر النازية بحق اليهود لم يكونا سوى جده وجدته، موضحاً بما يمكن اعتباره وقاحة روائية أي الأجزاء من حكايته حقيقية وأيها خيالي.
وفي رواية “الكتب التي التهمت والدي” نشهد ابتكارين لطيفين، أولهما هو تضمين الرواية صورة رمزية للكتب المرتبة على رفوف مكتبة والده، والتي أحسن المترجم سعيد بنعبد الواحد بالإبقاء عليها بحروفها اللاتينية وخطوطها وأحجامها المختلفة، لتظهر بذات العشوائية المهدهدة للمكتبات في بيوتنا.
أما الابتكار الثاني فهو استخدامه لأحجام الخطوط لمنح الإيحاءات الصوتية، والتي تتكرر عدة مراتٍ في الرواية، لعل أهمها السطر الأول من الرواية حين ينادي رئيس مصلحة الضرائب على فيفالدو، فيبدو الصوت وكأنه بدأ مرتفعاً لينخفض شيئاً فشيئاً، متسبباً بوقفة لا بد منها للقارئ يشعر عندها بذات شعور فيفالدو حين يقاطعه نداء الآخرين عن القراءة.
لحسن حظنا أن الكثير من أعمال كروش تتم ترجمتها إلى العربية رغم حداثة عهد شهرته (صفحة أفونسو كروش على ويكيبيديا بالإنجليزية لا يتجاوز حجمها 211 كلمة)، حيث يحمل هذا الكاتب معه تغييراً لبعض جوانب المفهوم التقليدي للأدب، سواءً من ناحية الشكل، أو من ناحية الجدّية في التعامل مع الفاصل الوهمي بين عالم الرواية والعالم الواقعي.
الابتكار الأدبي ليس بالأمر الجديد على الأسماء البرتغالية القليلة البارزة، مثل بيسوا الذي كتب باستخدام عدة أسماء مستعارة بنى لها هويات ومسيرات أدبية متباينة، وجوزيه ساراماغو، الذي قدم – إضافة لعبقرية أعماله – عدة تحولات على مستوى الشكل منها على سبيل المثال تقديم الحوارات متصلة دون فصلها ضمن فقرات أو سطور حسب المتحدث.
كتاب “الكتب التي التهمت والدي” تمجيد ورثاء لعالم الأدب في الوقت نفسه، وليس المعني بذلك الجانب الثقافي من المسألة، بقدر ما هو الجانب الشخصي لحياة القرّاء المليئة بالعوالم الخيالية التي تدور في رؤوسهم ولا تغادرها، إن هذا الكتاب – كما يبدو لي – عربون شكر للكتب على ابتلاعها لنا بعيداً عن العالم الذي لا يمكننا فيه التأخر عن موعد العشاء، وشكوى من الواقع الذي يكافح يومياً لسحبنا بعيداً عنها.
*الصورة من جريدة “بريد الصباح” (Correio da manha) البرتغالية