حكاية هروبي من فيسبوك إلى الصمت

تواجدي الأول على وسائل التواصل الاجتماعي كان في عام 2009، أنشأتُ حساباً على فيسبوك تحت ضغط الحديث المتواصل من أصدقائي عن هذا الشيء الذي يتكلمون مع بعضهم عبره، وتحت إغراء حصولي على خط إنترنت مستقر لأول مرة في حياتي مع بدء عملي في موقع إخباري محلي، وبعدها بشهور انضممتُ إلى تويتر أيضاً تحت ضغط التركيز المفرط عليه في المحتوى التلفزيوني والسينمائي الأمريكي.

كان الأمر لطيفاً في البداية، مع عدد المستخدمين القليل وكون فيسبوك بالفعل فضاءً مفتوحاً تحتمل كل الأفكار والمحاولات فيه النجاح أو الفشل، ولم يكن مقياس النجاح حينها عدد الإعجابات بقدر ما كان قدرة الأفكار المطروحة على الانتقال إلى أرض الواقع.

كما كانت فكرة جميلة أن تجتمع كل وسائل الإعلام في مكانٍ واحد، بدلاً من تصفح مواقعها فرادى، والتعرف على أشخاص غرباء تجمعنا بهم أفكارٌ شجاعة أو سخيفة كنا نظن في واقعنا المحايد أن ليس هناك من يشاركنا بها في محيطنا.

في آذار 2011، حصل ما حصل، ورفع الحجب عن فيسبوك ويوتيوب في سوريا، وفجأة أصبحت كل سوريا على فيسبوك، مثل الجميع وجدته مكاناً مناسباً لقول ما لا يمكننا أن نصرّح به في الطرقات خوفاً من آذان الجدران، التي كانت عملياً على جدران حساباتنا على فيسبوك، ولقياس مدى تقبل الآخرين لأفكارنا. ولكن في الوقت نفسه تحولت وسائل التواصل الاجتماعي لمرآة مفرطة الواقعية، تظهر لنا الكثير مما كان مخفياً في مجتمعنا الذي اعتقدنا أننا خبراء به، وصادماً سكان بعض المدن الكبرى بما فيها دمشق أن البلد ليست الشوارع الثلاثة التي نقضي فيها معظم أيامنا، وأن ما نظنه استثناءً في كثير من الحالات ليس سوى الحالة العامة، وأن المتفائلين بالواقع بسبب مشاهدات محدودة هم الاستثناء.

مع تسارع الأحداث، وتقمص الأطراف لقبائح بعضها البعض، وجدتني مضطراً شيئاً فشيئاً لتفادي الخلاف مع من حولي، وهم مختلطون جداً سياسياً بفضل تفاؤلي السابق في إقحام الجميع في حياتي، وأصبحتْ أكثر تبنياً لسياسة تفادي الاختلاف مع تصاعد العنف وتحول أي آراءٍ لمجرّد صدىً يُرمى مجاناً في أودية خالية حيث يحكم السلاح كل المعادلات.

حتى وصلتُ أخيراً إلى يومنا هذا، حيث الجميع تقريباً موجود على وسائل التواصل الاجتماعي، من الأهل الذين كانت تصلهم أخبارٌ مشوشة عمّا أنشره على فيسبوك، إلى أقارب بالكاد أعرف أي شيءٍ عنهم، إلى مدرائي في خمسة أعمال كنتُ أعمل فيها دفعة واحدة بسبب طبيعتي عملي المستقلة، إلى مئات الأشخاص الذين لا أملك أدنى فكرة من هم أو حتى أتذكر ما الذي جعلهم على قائمة أصدقائي.

اليوم، مع الانتشار المفرط لاستخدام فيسبوك، وبدرجة أقل إنستغرام، لم يعد فضاءً هامشياً قادراً على جمع البشر المتشابهين بعيداً أن أعين مختلف السلطات السياسية والاجتماعية حين يكون ذلك الاجتماع غير مرغوبٍ به، بل إنه الآن مجرّد طبقة من طبقات حياتنا، تتميّز بالتراكم الذي لا يتيح تهميش من أصبحوا على هامش حياتنا.

أي انتقاد سيكون مكشوفاً أمام شخصٍ معني به، وفي الحالة السورية، التعبير عن الرأي في كثير من الحالات يعني تهديد السلامة الشخصية مع تكاثر القمع في البلاد وتبني أساليبه من قبل جميع الأطراف، حتى تلك التي خرجت ضده، وبدأ الأمر بـ”قصر الشر”، عدة مرّات آثرتُ فيها عدم نشر المنشور الذي جهزته بالفعل، أو حذفه بعد نشره تفادياً لصدامات ونقاشات وتخوين وتجريح أنا في غنىً عنه، وصارت هذه المرّات أكثر تطوّراً، فلا أنتقد أي اتجاهٍ سياسي خوفاً من جرح مشاعر من ما زالوا يدينون بدين القادة والأحزاب، ولا أنتقد أي دينٍ أو ممارسة دينية توخياً لمنفعلٍ هنا أو هناك يكلفني حياتي أو على الأقل أمسيتي، ولا أنتقد أي كاتبٍ أو صحفيٍ أو فنان أو فني إضاءةً خوفاً من الاتهامات الجاهزة بالجهل أو الغيرة أو عدم الإيمان بالفن والصحافة والإضاءة الملتزمة.

هذه الـ”عدة مرات” أصبحت مع مرور الزمن الحالة الغالبة، ومع تراجع التفاعل مع منشوراتي القليلة الناجية (الأمر يتعلق بالعامل الزمني وكثافة التفاعل ضمن عوامل أخرى تدخل في خوارزميات فيسبوك) أصبحت أقل حماسةً لمشاركة أي شيءٍ على فيسبوك، مغموراً بشعور التعرض لقمعٍ جماعي أكثر من أي وقتٍ مضى، ومتخلياً عن أي أملٍ في تغيير يبدأ من فضاءٍ لا يقل عن كونه الواقع مكروراً مع مسؤولية وأثر أقل للأفعال – التي هي مجرد أقوال هنا – وأفرادٍ أقل اضطراراً لمواجهة تناقضاتهم وأخطائهم.

في سوريا، حين رُفع الحجب عن وسائل التواصل الاجتماعي والسياسة، كان فيسبوك خصوصاً ذا فعالية أكبر، إذ كان المختلفون مضطرون لسماع آراء بعضهم البعض، وكان هناك نقاشٌ – ما – يجري على فيسبوك بالفعل، ولكن مع مرور الزمن، وتزايد الاحتقان والعنف، والحجب والحذف المتواصل بين المختلفين في الآراء على مختلف المستويات، أصبحت معظم “النقاشات” على فيسبوك أشبه بجماعات منعزلة في غرفها ضيقة الأفق، حيث يجترّون نفس الكلمات والآراء ويتحدثون إلى أنفسهم ويصفقون لأنفسهم محتفين بغلبة الرأي الواحد، غير مدركين أي عزلة حادة تتشكل مع مرور الزمن بين المختلفين، وأي أضرار تترتب على أن يكون الفضاء الوحيد الذي يجمع بلداً مشتتاً في مختلف أنحاء الكوكب هو هذا الفضاء الافتراضي السطحي، السطحي من حيث إنتاج الآراء والكلمات والاقتباسات الملهمة كماكينة مرتديلا، والسطحي من ناحية ديمقراطية جودة الفنون والآراء ومساهمة آراء الغالبية في تعريف الجودة والصواب في كل الأشياء أياً كانت خبرات ومعلومات هذه الأغلبية.

ولذلك قررتُ ألا أكون جزءاً من هذا السرطان، وأن أكتفي بتقفي بعض الصور والفيديوهات المضحكة على فيسبوك، أمّا تواصلي مع العالم الخارجي، فهو كما يجب، عبر الصحافة التي أتابعها عبر تطبيقات قراءة ملقمات الخلاصات (RSS) المحترمة، والتي تجعلني أقرأ مقالاً أكثر متعة من الثرثرة اليومية، وحيث لا منبر للحمقى.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها