التناقضات مقنعة بالتشابهات في رواية كريستين توروب “إله الصدفة”

مجرد صدفة جمعتني بهذا الكتاب، اتصالي بصديقة قديمة قبل أيام، واتفاقنا على زيارة معرض الشارقة للكتاب، مروري أمام جناح المجلس الوطني للثقافة والفنون، وتوقفي عنده لمعرفتي بإصداره لأعداد عالم المعرفة، واضطراري لشراء كتابٍ إضافي لعدم امتلاك مسؤول البيع لورقة نقدية من فئة العشر دراهم، وصدفة أن أصل إليه أصلاً دون أي عشرة دراهم في جيبي.

كتاب وحدها الصدفة قادرة أن تقودك إليه، خصوصاً أنه كاتبته كريستين توروب[1] ليست نجمة عالمية كما هي حال معظم الكتاب-النجوم الذين تصلنا كتبهم من الغرب، وترجمة كتابها تصدر عن مؤسسة ثقافية بلا صورة على الغلاف، ولا شيء فيها يدعوك للحصول عليها سوى عنوان يتحداك أن تراهن على الصدفة.

الحكاية في هذه الرواية تتكلم عن صدفة واحدة لا أكثر، جمعت بين امرأة دانماركية اضطرت لأخذ إجازة من عملها تحت ضغط إدارة شركتها بسبب إفراطها بالعمل، فكان عليها قبول أول باقة سفر سياحية متوفرة، ومراهقة غامبية اضطرت لترك قريتها بسبب فقر أسرتها والعيش مع خالتها في المدينة، والعمل بعد ساعات المدرسة في بيع الفواكه على شاطئٍ يفترشه سياح فندق فخم.

الصدفة الحقيقية تجمع بين هاتين الإنسانتين هي أسماؤهما، مارياما[2] الغامبية وماريانا الدانماركية، والتي تظهر بهذا الاسم فقط أثناء الصدفة التي جمعتها بمارياما، ثم أزيح الاسم والصدفة معه، ليصبح اسمها “نانا”.

مارياما ونانا متشابهتان، ولكن لتشابهاتهما التي تظهر على طول الرواية مقدمات مختلفة تعكس اختلافات بين عالمين يقفان على طرفي النقيض؛ الشمال الأبيض الثري حيث أصبحت الحياة متعلقة بجمع المال وتسريع عملية الحصول عليه دون أن تكون الغاية ما يستطيع هذا المال شراءه، والجنوب الأفريقي الفقير، حيث ما زالت الحاجات أساسية لدرجة أن التعليم ليس أحدها، وحيث يصنع سياج من الحراس حول شاطئ السياح ليضع فاصلاً دقيقاً بين الحياة الحقيقية البائسة في أصل البلاد، وفسحة السياح الذين لا بد من تأمين الجو المناسب لهم للحصول على البعض من أموالهم.

نانا مشغولة معظم وقتها في عملها كقائدة فريق في شركة استثمارات واستشارات مالية، مدفوعة بهوس النجاح وتركّز دورة حياتها حول العمل وشركة “روار” بالذات التي قضت فيها سنيناً طويلة من حياتها، فيما ماريانا تنفق نهارها في المدرسة حين تقدر على دفع أقساطها، والعمل في حرق أجهزة إلكترونية للحصول على النيكل والنحاس من بقاياها، وثم بيع الفواكه على الشاطئ الذي التقت بنانا فيه، ورغم ذلك فإنها لا تقدر على الحصول على أبسط حاجات الحياة، مثل التغذية الكافية.

 من ناحية أخرى فإن نانا فارقت أهلها بعد أن عرفت أنها ثمرة تلقيح اصطناعي (طفلة أنابيب)، الأمر الذي لم تعرف به لولا زلة لسان طبيب/صديق العائلة الذي ناداها “طفلتي بالتبرع”، لتفارق أهلها وتتلقى علاجاً نفسياً بسبب الصدمة النفسية التي أصابتها، وتكون قادرة على ذلك بفضل قدرتها المادية، أما مارياما فاضطرت لفراق أمها بسبب الفقر الشديد في قريتها، واضطرت للعيش مع خالتها التي تعمل في بنك في العاصمة، والتي قبلت أن تربيها مع ابنتها مادلين التي تفضلها على مارياما، مقابل مساعدة الأخيرة لها في أعمال المنزل، وبالطبع عملها للحصول على ما يكفي لطعامها ومساعدة أمها في القرية.

مثالية الرجل الأبيض تكون حاضرة في سلوك نانا، التي ترفض مساعدة عائلة مارياما، وتعمل جهدها لتساعدها على إتمام دراستها حصراً، ومن ثم انتقالها إلى إنكلترا لتكمل دراستها الجامعية هناك، ولكنها لا تسكنها معها، إنما مع صديقيها بن وبياتريس – اللذين تعرف عليهما في ذات الرحلة الأفريقية التي جمعتها بمارياما – في وضع مشوش بين ابنة بالتبني وخادمة، وعمل هذين الصديقين يتعلق أيضاً بالدول الأفريقية وتنميتها، وسبق لهما تبني فتاة أفريقية أخرى هربت من منزلهما.

ابتداءً من انتقال مارياما إلى لندن تبدأ التناقضات/التشابهات بالتعاكس، فنانا تعجز عن أن تجد عملاً في لندن بعد أن غادرت كوبنهاجن، وتضطر للقبول بالاستغلال الجنسي للمرأة الذي أنقذت مارياما منه، وتمارس الجنس مع مدير التوظيف في فرع “روار” في لندن أملاً بمساعدتها على أن تجد مكاناً له في الشركة التي لا تستطيع التفكير بالعمل لسواها، أما مارياما فرغم الفرصة الذهبية – برأي نانا – التي أتيحت لها لتكمل دراستها وتبدأ مسار حياةٍ كريمة، فتقرر العمل في سوبرماركت لتتمكن من مساعدة عائلتها في غامبيا.

من ثم تأخذ كل منهما بامتصاص شوائب ثقافة الأخرى، فنانا تصاب بارتياب خوفاً من السحر الأسود الذي قد تمارسه عائلة مارياما باستخدام الصورة التي أرسلتها لوالدة مارياما، فيما تبدأ مارياما بتناول الحبوب التي تساعدها على الدراسة بشكل أفضل، وتصاب بأرق مفرط خوفاً من الامتحانات التي تعجز عن اجتيازها بالنجاح المطلوب لتتابع الدراسة في بريطانيا وتجديد تأشيرتها.

في نهايات الرواية تقرر مارياما أن تتخلى عن طموحها بإكمال تعليمها والبقاء بشكل غير شرعي في بريطانيا لتتمكن من العمل ومساعدة عائلتها، وبعد فقدان أثرها، وبحث نانا عنها طويلاً تلتقيان صدفة في مكان يجمع فقراء القارتين، جمعية خيرية توزع الطعام المجاني على الفقراء والمشردين.

رغم أن هذه الرواية تم تأليفها في الغرب (الدنمارك)، فإنها تشعرك وكأن كاتبتها ابنة أصيلة من أبناء الدول الفقيرة، تضع الرجل الأبيض أمام واقع الفروق المضنية بين الجهتين، وعبر حكاية بسيطة لا تخرج كثيراً عن المألوف تكشف توروب حقيقة عدم تشارك الغرب الثري خيرات الكوكب مع البشر الأكثر فقراً، إنما اكتفاءه بالتخفي خلف قناع أو “موضة” – كما يصف كثيرون فعل نانا في الرواية – يخفي خلفه فروقاً عميقة لا يمكن تجاوزها ببعض الأعمال الخيرية أو التبرعات، وكيف أن حتى هذه الأعمال الخيرية، مثل شركة بن وبياترس، تتحول إلى مصدر ربح آخر للرجل الأبيض، وتهرسها عجلة حياته التي لا تسمح بمرور شيءٍ إلى شاطئ الناجح ما لم يحقق الربح المالي المطلوب منه.

تنتهي الرواية بمحاولة إقناع نانا لمارياما بأن تعود لدراستها وتتخلى عن الأفكار السخيفة التي أقنعها بها مشروع محامٍ أفريقي مقيم في لندن، مشهد تخفي فيه محاولة إقناعها عدم الانضمام لأبناء جلدتها وظروفهم والنجاة بنفسها ما دام هناك بعض البيض الذي يسعون لمساعدتها، وأثناء احتدام النقاش تسقط مارياما بدفعة من نانا وتصدم رأسها بحافة الرصيف وتموت، المشهد الذي يصلح تفسيره كرمز عن ختام محاولات الإنقاذ الغربية للشعوب الفقيرة، والتي تنتهي بتدميرها ما لم تصبح هذه الشعوب على الشاكلة التي تناسب العقلية والمنظومة الأخلاقية الغربية الرأسمالية، والتي بفعلتها هذه “لم تعِ أنها قتلت روحها” كما تقول كريستين توروب في هذا المشهد.

بعد قراءتي هذه الرواية بعشرة أيام، جمعتني الصدفة بشاب وفتاة دنماركيين أثناء اجتماع وحفل لشركة أوجيلفي، لم أتعرف بحياتي على إنسانٍ دنماركي واحد، وبعد قراءة أول كتاب دنماركي في حياتي، أتعرف على إنسانين دنماركيين دفعة واحدة، يا لها من صدفة مبهجة.


*الصورة: صحيفة “بوليتيكن” الدنماركية

[1]  أو كريستن تورُب.

[2] أغلب الظن أن الاسم المقصود هنا هو “مريمة”، خصوصاً أنها مسلمة كما يظهر لاحقاً في الرواية.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها