عندما ينوي القارئ التعرف على كاتب جديد، فإنه يبدأ بأحد كتبه، وبعد الانتهاء من قراءة الكتاب الأول تكون مهمّة “التعرف على الكاتب” قد انتهت إلى حد ما، ولكن مع ماريو بارغاس يوسا فالأمر مختلف تماماً، إذ يتعرف القارئ على كاتب جديد كل مرة يقرأ إحدى رواياته.
بعد (حفلة التيس) و(من قتل بالومينو موليرو؟) و(امتداح الخالة) و(شيطنات الطفلة الخبيثة)، تعرّفت مع كتاب (البيت الأخضر) على كاتب خامس مختلف بشكل شبه تام عن كتّاب الروايات الأربع الأخرى. كان ماريو بارغاس يوسا في هذه الرواية كاتباً بيروفياً أكثر مما هو عليه في الروايات الأربع الأخرى، متمايزاً عن تجاربي مع كتاب أميركا اللاتينية لناحية الواقع الذي تعكسه الرواية وتنغمس فيه.
إنه كتابٌ يحتاج لكثير من الصبر عند قراءته، عليكم أن تقرؤوه بلا آمال مسبقة. الحكاية تبدأ مشتتة وتسير على عدة محاور لا يبدو أنها ستتقاطع، ثم تبدأ قطع الأحجية بالتقارب من بعضها البعض تدريجياً، لكن بدون أن تتلامس جميعها تماماً في النهاية.
ساغا لاخطية
إذا ما أردنا تلخيص الحكاية – أو عشرات الحكايات – التي يرويها الكتاب، فبإمكاننا تلخيصها بأنها قصص عدة شخصيات من ثلاث مدن بيروفية، بيورا وسانتا ماريا ده نييبا وإيكيتوس، وتدور في عدة عوالم، المسيحيون-البيروفيون المتكلمين بالإسبانية والأغوارنيون وغيرهم من السكان الأصليين، ضمن مساحة من الجغرافيا والعلاقات العملية والشخصية التي تتقاطع فيها عوالم هذه الشعوب. لا أحد نقي، والجميع يشوبه الفساد بشكل أو بآخر، وبين الاستغلال والسرقة والاغتصاب واغتيال ثقافة الآخر، تخسر كل الشخصيات تقريباً قضاياها أمام القارئ.
لا يوجد حدث واضح تبدأ أو تنتهي به القصة التي تحكيها الرواية، كما لو أنه قد تم تشغيل كاميرا وهي مسلطة على عوالم الرواية في موعد عشوائي، ليتم إطفاؤها لاحقاً في موعد عشوائي تماماً، ولكن إن حاولنا أن نرسم حدّاً تقريباً على رمال هذه الرواية، نعرف أنه سيزول بعد قليل، فيمكن القول أن القصة تسير بالتوازي – بدون أن تتمحور حول – حياة دون أنسيلمو، الذي يصل إلى بيورا كغيره من الغرباء الذين يأتون ويتاجرون ويرحلون، ولكنه يبقى ويؤسس البيت الأخضر، أول بيت دعارة في المدينة، مضيفاً صوتين إلى مدينة صامتة: صوت الموسيقا التي كانت تجذب الساهرين من شتى زوايا المدينة، وصوت الأب غارثيّا الذي يحذر من الشرور التي سيجلبها بيت الخطيئة هذا على المدينة.
ولكن هذا المحور من القصة لا يبدو رئيسياً، وحتى دون أنسيلمو يتحوّل بعد ما كان يتصدّر المشهد إلى شخصية ثانوية، ليكون مجرّد خيطٍ زمني رقيق يحاول حصر زمن الرواية. ولكن إن فكّكنا مشاهد الرواية وتجاهلنا ترتيبها، فإنها أقرب ما تكون لرواية ساغا، ولكن بدون الانسياب الزماني والمكاني الواضح الذي تحتويه روايات الساغا عادةً.
يقفز الكاتب في أقسام الرواية الأربعة وخاتمتها بين مختلف الأزمنة والأماكن والحكايات التي تتقارب من بعضها تدريجياً، وحتى داخل الحوار الواحد تشارك الشخصية الواحدة في حوارين، كحوارات فوشيا وأكيلينو أثناء رحلتهما في نهر سانتياغو، حيث تتداخل حوارات أكيلينو وفوشيا مع حوارات فوشيا ولاليتا من حكايات الماضي التي يستذكرونها.
هي ساغا – بشكل أو بآخر – ولكن يوسا أخذ خيوطاً زمانية ومكانية متشابكة بما علق فيها، والنتيجة كانت أنه بدلاً من أن يروي للقارئ حكاية خطّية، زرع في رأسه مجموعة من القصص والذكريات المشوشة في بعض المقاطع، ليصبح القارئ نفسه مواطناً من مواطني بيورا، يسترجع حكايات مشوشة عن أبناء مجتمعها، ويضيع في رأسه – كحال الذاكرة – الترتيب الدقيق الذي حصلت به.
الوثنيون الهامشيون
تتجوّل الرواية بخجل في عالم الأغوارنيين وغيرهم من قبائل السكان الأصليين لغابات الأمازون المحاذية لنهر سانتياغو في البيرو، ولكن موقعهم من القصة هامشي، يعكس واقعهم من المجتمعات البيروفية النائية التي تتناولها الرواية.
فهم يتعرّضون للسرقة والقتل والتعذيب، ويعيشون على أطراف المجتمعات المسيحية أو في الغابات هرباً منها، وتتسرّب شخصيتان إلى مسرح الأحداث مسلطة الضوء على بنية العلاقات التي تجمعهم بالمجتمع المسيحي، الذي يعدّ امتداداً اجتماعياً – وإن لم يكن كذلك عرقياً – للأمم الغربية التي استعمرتهم.
الشخصية الأولى هو خوم، الذي يتعرّض للخطف وتُسرق بضائعه من المطاط والجلود، ويتم تعليقه في وسط الساحة وتعذيبه على مرأى الجميع، وبعد إطلاق سراحة يحاول الشكوى لمدّة سنتين مما أصابه، ولا تؤخذ مطالبه على محمل الجد.
خوم يحلق شعره – بعكس أعراف شعبه – كي يمنع نفسه من العودة خاوي الوفاض مكللاً بالعار إلى عائلته وقبيلته، ويحاول مراراً شرح شكواه عبثاً. ولكن أصل ورطته يضيف طبقة إضافية إلى أزمته، فقد تم القبض عليه أصلاً لكونه الوحيد الذي وصلت إليه أيدي السلطات – الموظّفة لخدمة مصالح الحاكم خوليو رئاتيغي التجارية – إثر مساعدته لعصابة يقودها مسيحيون على السطو على بضائع تعود لمسيحيين آخرين، فورطته بدأت أصلاً بتقديمه يد العون لفوشيا على ممارسة سرقاته، وتقديم هذا النوع من المساعدة من قبل السكان الأصليين للمسيحيين يبدو اعتيادياً في القواعد السائدة التي تقدّمها رواية (البيت الأخضر)، بل يبدو كعرف يجبرهم على الانصياع لأوامر حتى الخارجين عن القانون منهم مقابل مصالح بسيطة.
أما الشخصية الثانية فهي بونيفاثيا، التي تقع منذ طفولتها فريسة نشاط يمارسه أحد أديرة الراهبات، يتمثل في اختطاف أطفال الأغوارنيين وتعليمهم اللغة الإسبانية، أو “اللغة المسيحية”، وتربيتهم على اعتناق المسيحية، حتى يكبرن ويتم تقديمهن كخدم وعمال للعائلات المسيحية.
ويجدر بالذكر أن هذه الممارسات ليست نادرة تماماً، فاليوم بالتحديد انتهى البابا فرانسيس من رحلة “التوبة” عمّا وصفه بالإبادة الجماعية، والتي تتمثل في ممارسات المدارس الداخلية الكاثوليكية في كندا التي راح ضحيتها أكثر من 150 ألف طفل من سكان كندا الأصليين، اقتلعوا من عائلاتهم وثقافتهم وتعرّضوا خلال إقامتهم في هذه المدارس لانتهاكات متعددة.
على كل حال، تبدأ معاناة بونيفاثيا عندما تسمح لعدة أطفال وصلوا للتو بالهروب، وينتهي بها الأمر بالطرد والتجريد من رهبانيتها، لتدور في فلك المجتمع البيروفي، واضعة ثقتها في قدرة الآخرين على تقبلها رغم اختلافها، فتتزوج من رقيب في الشرطة، وتدور بها الأحداث حتى ينتهي بها الأمر عاهرة في البيت الأخضر.
تتمثل مأساة بونيفاثيا، التي يتحوّل اسمها إلى لاسيلباتيكا مع مرور الزمن، في عجز المجتمع عن معاملتها كعضو كامل فيه، فعقابها في الدير يتناقض مع مبادئ الدين الذي يقوم عليه، ومعاملة زوجها لها تتناقض مع أخلاقه ووعوده لها قبل الزواج، متشكياً خصوصاً من عدم قدرتها على التصرّف كامرأة متحضّرة رغم ما يفرضه زواجها منه من واجبات، وحتى صديقه المقرّب الذي يتحرّشها ويدخل معها في علاقة غرامية قبل وأثناء سجن زوجها يجبرها على العمل في البيت الأخضر كي تعيله.
“مئة عام” يوسا
حين بدأت بكتابة الفقرة الثانية من هذا المقال، أوردت (حفلة التيس) و(من قتل بالومينو موليرو؟) بوصفهما الروايتين الوحيدتين اللتين قرأتهما ليوسّا، ومع تقدّمي في كتابة المقال تذكّرتُ (امتداح الخالة) و(شيطنات الطفلة الخبيثة)، وليس ذلك سوى دليل آخر على فرادة كل رواية ينتجها ماريو بارغاس يوسا، حيث يبدو وكأنه يكتبد عناء مسيرة أدبية بحالها لكتابة كلّ رواية، بانياً عمله الأدبيّ من أرضٍ جرداء أزال عنها كل ما علق من أعماله الأخرى.
عند قراءة المزيد من أعماله، ربّما يبدأ أسلوب أو تقاطعات ما بالظهور، ولكن أن تكتب خمسة روايات يستحيل تمييزها كأعمال كاتب واحد، لولا وجود اسمه على أغلفتها، يبدو إنجازاً نادر الحدوث، وأخشى أنني بعد نشر هذا المقال سأتذكر أعمالاً أخرى قرأتها لها يتخفى فيها خلف أقنعته الأسلوبية الأخرى.
هذه الرواية باعتقادي من أكمل الأعمال التي أنتجها يوسّا، ويمكن تشبيه موقعها من أعمال يوسّا بموقع (مئة عام من العزلة) من أعمال غابرييل غارسيا ماركيز. قراءتها متعبة وتستغرق الكثير من الوقت والجهد لاستيعاب تشابكاتها وتعقيداتها، ولكنها مشقة لا بد منها لمن يريد اكتشاف عالماً كاملاً ممكناً للرواية، سواءً أكان قارئاً أم كاتباً.