آفات الاستعمار الاقتصادية: القطنيات الهندية نموذجاً

آرثر ويليامز ديفيس

في كتابه “عصور العولمة”[1]، يقسّم الاقتصادي جيفري ساكس تاريخ البشرية وفقاً لدرجة العولمة إلى سبعة عصور، سادسها هو ما سمّاه “عصر المحيطات”، والذي بدأ برحلتين مهمّتين في تاريخ البشرية، الأولى رحلة كريستوفر كولومبوس عام 1492 التي اكتشف فيها أميركا الشمالية، ورحلة فاسكوس دي غاما من لشبونة إلى كاليكوت في الهند عام 1498، حيث اكتشف خلالها الطريق إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، بدلاً من الطريق المتقطع الذي يمر بجزء برّي ضمن أراضي السلطنة العثمانية، والتي كان وجودها ككيان معادٍ للأوروبيين السبب الرئيسي أصلاً خلف البحث عن طرقات بديلة.

مع بداية هذا العصر انتقلت الدول الأوروبية من التوجه للأراضي المجاورة والتحارب فيما بينها لتوسيع نفوذها، إلى الاتجاه لما وراء المحيطات، لتبدأ حقبة الاستعمار الطويلة التي استمرت لأكثر من أربعة قرون، هذا التغيير تزامن مع تغييرات كبرى أخرى مثل اختراع الطباعة والبدء باستخدام البارود، وتغييرات فكرية إثر اكتشاف أراض جديدة ومخلوقات جديدة غير مذكورة في الكتاب المقدّس، مع بدء نهضة فكرية في القارة الأوروبية، ولكن هذه الفترة نفسها أدّت إلى آثار مدمّرة، مثل اتساع العبودية، وبداية تشكّل الرأسمالية العالمية بشكل أكثر وعدوانية عن حالتها كما نعرفها اليوم.

ترتبط العبودية المرافقة للاستعمار البريطاني بشكل رمزي بمزارع القطن في جزر الكاريبي والولايات المتحدة، ولكن إضافة إلى هذا الجانب من دور القطن في هذه الفترة المظلمة، هناك جانب مظلم آخر أدّى بدوره لتدمير حياة مئات الملايين، وأسقط شعوب شبه القارة الهندية في هاوية الفقر المدقع التي لا يبدو أنها تمكنت حتى الآن من الخروج منها.

لمحة مختصرة عن تاريخ احتلال الهند

كانت التحوّلات في نماذج الإنتاج والاقتصاد عموماً في أوروبا وراء أولى خطوات بريطانيا تجاه الهند، وكانت الطموحات التجارية هي من أطلق شرارة الأطماع البريطانية في شبه القارة الهندية، بل ومن أبقى نيرانها مشتعلة لما يقارب القرن من الزمن، حيث بدأ الحضور البريطاني في الهند مع اسم مألوف لكثيرين منها: شركة الهند الشرقية.

تأسست هذه الشركة عام 1600 بعد عدة محاولات سابقة باءت بالفشل، ونجحت المحاولة الأخيرة بعد تقدّم 219 شخصية سياسية وتجارية بعريضة تطلب السماح بتأسيس الشركة وعملها تحت لواء الملكية البريطانية ومنحها احتكاراً للتجارة الإنجليزية (والبريطانية لاحقاً) شرق رأس الرجاء الصالح، وكانت لديها صلاحية مصادرة أي تجارة تجري خارج إشرافها مع المناطق التي يشملها هذا الاحتكار، مع تقديم نصف ما تتم مصادرته للتاج الملكي.

في ذات الفترة كانت الهند دولة موحدة تحت حكم المغول، وكان عدد سكانها يشكل حوالي ربع سكان الكوكب، وكانت من أكبر القوى الصناعية في العالم، خصوصاً بالنسبة للأقمشة القطنية المرغوبة بشدة في الأسواق الأوروبية. وبدأت علاقة شركة الهند الشرقية – التي كانت تمارس أعمالها في عدة أقاليم في الهند وشرقها – مع السلطات السياسية في الهند عندما عقدت اتفاقية مع سلطان دولة المغول الهندية التي حكمت الهند لحوالي 300 عام، والتي منح بموجبها للشركة الحق بإنشاء المعامل في سورت غرب الهند، لتقوم تدريجياً ببناء وتشغيل معامل مختلفة مستفيدة من امتيازات وإعفاءات كريمة من الرسوم والضرائب من سلطان دولة المغول الهندية.

ولكن هذه الوضعية بدأت تتغير مع عدة تهديدات لحكم المغول في أواخر القرن السابع عشر، على رأسها التهديد البريطاني الذي بدأ في البنغال، حيث هزمت شركة الهند الشرقية حاكم منطقة البنغال وحلفائه الفرنسيين في معركة بلاسي سنة 1757، باستخدام جيشها الخاص الذي كانت مهمته تقتصر حتى ذلك الحين على حماية معاملها، لتبدأ باتباع أسلوب جديد جعلها تتوسع عسكرياً متجاوزة دورها التجاري، وتسيطر على معظم الهند من خلال حروب عديدة خاضتها مع مختلف القوى المسيطرة في الهند، خصوصاً بين عامي 1775 و1811، وكانت الشركة هي الحاكم الفعلي للهند حتى قيام ثورة عام 1857 التي أدّت لتولي الحكومة البريطانية السيطرة المباشرة على الهند إلى حين استقلالها عام 1947، ضمن الفترة التي تعرف باسم “الراج البريطاني” أو “الهند البريطانية”.

الغيرة الأوروبية

خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت الأقمشة القطنية الهندية تتدفق نحو مختلف أنحاء العالم بكميات كبيرة، وتدخل بفضلها كميات كبيرة من الثروات على شكل ذهب وفضة إلى الهند، وكان ما يميّزها بشكل خاص ألوانها، سواء أكانت أقمشة وملابس مزينة بالألوان، أم قماش الكاليكو الأبيض الذي يشكّل خامة لمختلف التطبيقات في الأزياء والصناعات، والذي يحمل هذا الاسم تيمناً بمدينة كاليكوت في ولاية كيرالا.

وقد شهد النصف الثاني من القرن السابع عشر عدة محاولات لتقليد الأقمشة القطنية الهندية، بدأت في مارسيليا، ثم في لندن وآمرسفورت وبرلين وفرانكفورت وهامبورغ وغيرها من المدن الصناعية في أوروبا. ولكن استنساخ الأقمشة الهندية تطلب كميات هائلة من الصباغ، والتوصل لأساليب جديدة تتيح صناعة هذه الصباغ بسرعة كبيرة، كما واجه الصناعيون الأوروبيون تحدياً يتمثل في تطبيق تقنيات الصباغة على الأقمشة القطنية، والتي لم يملك الأوربيون حينها خبرة واسعة بخصوصها.

وتمّت ضمن هذه المحاولات الاستعانة بخبراء وحرفيين من الشرق – شرق المتوسط خصوصاً – الذي كان أكثر اتصالاً بالاقتصاد الهندي، وبالتالي أكثر ألفة مع تقنيات معالجة الأقمشة الهندية، مع امتلاك بعض مناطقه لتقنيات خاصة به قريبة من الأساليب الهندية. فتم مثلاً إنشاء شركة في مارسيليا في 1 فبراير 1672 لصناعة الأقمشة القطنية، ووظّفت رجلين من أرمينيا لتلوين الأقمشة بأسلوب بلاد الشام وفارس، كما تم تأسيس شركة لتلوين الأقمشة في مدينة آمرسفورت الهولندية سنة 1678 بمساعدة ميناء أزمير في الأناضول، والذي وفّر المعارف اللازمة للصناعيين المحليين.

بكل الأحوال، لم تكن الصناعات القطنية الأوروبية قادرة على منافسة نظيرتها الهندية لعدة أسباب، تتعلق بالاختلافات بين محاصيل القطن الأوروبية والهندية، وخبرات وكمية الأيدي العاملة في المكانين، خصوصاً في ظل المرحلة المتقدمة التي كانت قد وصلت إليها صناعة القطنيات الهندية.

على عكس الفكرة السائدة بأن الصناعات الأوروبية تمكنت من التفوق على نظيرتها الهندية بفضل التطور التكنولوجي المتسارع الذي حصل ابتداءً من الثورة الصناعية، فإن الحقائق التاريخية تقول أن هناك عاملاً آخر ساهم في هذا التفوق، يتمثل في الضغط الأوروبي على الصناعة الهندية عبر سياسات تتناقض مع مبدأ المنافسة الشريفة والسوق الحرة، وتهدف لتسهيل مهمّة الأطراف الصناعية الأوروبية ومنحها أفضلية غير عادلة في الأسواق الأوروبية وما تشمله من مستعمرات، والتي كانت الأكثر أهمية في الاقتصاد العالمي نظراً لحجمها وتجمع الثروة فيها، كما هي حالتها اليوم نسبياً.

هذه السياسات لم تكن حكراً على البريطانيين، إنما شملت أيضاً الفرنسيين والبرتغاليين والهولنديين والألمان الذين مارسوا بدورهم أنشطة استعمارية مماثلة في الهند في فترات مختلفة على نطاق أضيق، ولكن الجانب البريطاني كان الأكثر ضرراً لكونه صاحب اليد الطولى في الهند لعدة قرون، فقد ساهم بشكل أكبر بكثير من الأطراف الأخرى في تقويض الصناعات القطنية في الهند، وتحويل شبه القارة الهندية من مصدر للأقمشة الجاهزة للاستخدام، إلى مصدر لمحاصيل القطن مرتفع الجودة الذي تستفيد منه المصانع البريطانية والأوروبية عموماً حتى يومنا هذا.

القطنيات البريطانية المدلّلة

كان الحكم البرطاني بمرحلتيه فترة قاسية على الهند، تخللتها العديد من المجاعات وموت الملايين، ولكن الأثر الأقسى على الهند كان الضرر الاقتصادي الذي يظهر في الاقتصاد المتردي لدول شبه القارة الهندية حتى وقتنا الحاضر. فقد مارست بريطانيا – بضغط من الصناعيين البريطانيين وشركة الهند الشرقية – حمائية تجارية على مدار القرن الثامن عشر، منعت من خلالها الأنسجة الهندية الشهيرة من دخول الأسواق البريطانية وأفسحت المجال للمنسوجات المحلية رغم عدم ارتقاءها لمستوى جودة نظيرتها الهندية، ما أودى بأعمال ملايين العاملين في هذا القطاع إلى الهاوية بحلول القرن التاسع عشر، مع شبه انعدام الطلب من الأسواق الأكبر في العالم.

على مر قرون مارس البريطانيون ضغوطاً متصاعدة على صناعة النسيج الهندية عبر سلسلة من الإجراءات تتضمن قيوداً صارمة على واردات الأنسجة الهندية، ويلخص المؤرخ الهندي براسانان باراثاساراثي في كتابه “لماذا أصبحت أوروبا ثرية وآسيا لا”[2] أبرز الإجراءات البريطانية خلال فترة حكم شركة الهند الشرقية كما يلي:

– سنة 1700 صدر قرار بمنع الواردات الهندية من الملابس المطلية والمطبوعة لتمنح دفعة كبيرة للشركات الصناعية البريطانية العاملة في نفس المجال، والتي كانت تملك حقاً حصرياً في التوريد للأسواق البريطانية.

– سنة 1720 صدر قرار بمنع الواردات من أقمشة الكاليكو البيضاء، ما دفع المصنّعين البريطانيين الذين كان يستخدمون هذا القماس كخامة لصناعة مختلف الملابس والمفروشات للبحث عن بديل محلي، الأمر الذي تحقق بشكل نسبي عام 1771 مع اختراع مغزل أركرايت (Arkwright) الذي يعمل بالماء لإنتاج كميات كبيرة من هذه الأقمشة بسرعة كبيرة، ومن ثم اختراع مغزل (أو بغل) كرومبتون (Crompton) المطوّر عن مغزل أركرايت عام 1779.

– في ثمانينات القرن الثامن عشر تم فرض عدة رسوم حمائية على الواردات الهندية من قماش الموسلين (أو الموصلي)، ما ساعد صناع الموسلين البريطانيين على توسيع وتحسين قدراتهم الإنتاجية والتنافسية.

بعد ضرب صناعة النسيج الهندية لصالح نظيرتها البريطانية، عملت بريطانيا منذ بداية عصر الراج البريطاني على مواصلة إضعاف قدرة الأنسجة الهندية على المنافسة والنجاة في السوق، وتحويل الهند من مصدرٍ للأقمشة الجاهزة إلى مصدر للقطن الخام للمصانع البريطانية. حكمت بريطانيا الأرياف الهندية بقسوة مفرطة، ووقفت مكتوفة اليدين في مواجهة المجاعات المتعددة الناجمة عن أسباب طبيعية وعن الاستخفاف البريطاني بقيمة حياة الهنود، والذين حُرموا من الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية، فتسببت بإفقار وحرمان مئات ملايين سكان شبه القارة الهندية من التعليم.

لم تساهم هذه السياسات البريطانية في تراجع صناعة النسيج الهندية فقط، بل قدّمت أفضلية غير عادلة للاقتصاد البريطاني والأوروبي عموماً، حيث تقدّر مساهمة الصناعات القطنية في الدخل القومي البريطاني سنة 1831 بحوالي 17%، كما كانت صناعة الأنسجة ثاني أكبر مصدر لفرص العمل في الاقتصادين البريطاني والهندي بعد الزراعة.

على الرغم من ظهور بعض ملامح قطاع صناعي حديث في الهند مع بدايات القرن العشرين، فإن دول شبه القارة الهندية لم تستطع البدء ببناء صناعاتها قبل الاستقلال، ولكنها مهمّة شاقة في بلاد بلغت نسبة الأمية فيها أكثر من 80% ومتوسط حياة الفرد 37 عاماً عند خروج المستعمر البريطاني منها.

كما يقول سفين بيكيرت في كتابه “إمبراطورية القطن: تاريخ عالمي”[3]، فقد أدى هذا التحوّل لظهور “أول صناعة كبرى في تاريخ البشرية تفتقد للمواد الخام المورّدة محلياً”، وأدّى تطور هذه الصناعة إلى السعي المفرط للصناعيين البريطانيين إلى ضمان الحصول المستمر على القطن الخام، والبحث عنه خارج الهند التي لم تعد محاصيلها كافية لسد حاجاتها، ما أدى لاتساع عبودية اليد العاملة في حقول القطن في العالم الجديد، بما في ذلك الولايات المتحدة التي وفّرت حقولاً واسعة قائمة على عمل العبيد لتوفير كميات القطن الهائلة المطلوبة بتكلفة منخفضة.

على الرغم من انتهاء الاستعمار الأوروبي في مختلف دول العالم منذ عقود طويلة، فإن نهاية هذه الاستعمار لم تكن سوى نهاية لحضوره المباشر العسكري والسياسي في المستعمرات، ولكن الدول “المتحررة” من الاستعمار الأوروبي ما زالت تعاني اليوم من الأفضليات الاقتصادية التي ضمنتها الدول الأوروبية لاقتصاداتها وشركاتها.


[1] The Ages of Globalization: Geography, Technology, and Institutions

[2] Why Europe Grew Rich and Asia Did Not: Global Economic Divergence, 1600–1850

[3] Empire of Cotton: A Global History

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها