بعد ثلاثة عشر عاماً على انطلاق بيتكوين، باتت العملات الرقمية واقعاً لا مفر من استمراره، فقيمتها السوقية تبلغ اليوم أكثر من تريليون دولار، وحين وصلت لذروتها في شهر نوفمبر 2021 بلغت 2.9 تريليون دولار، وهي تزيد في حينها على القيمة السوقية الإجمالية للشركات المدرجة على مؤشر فاينانشال تايمز لأكبر 100 شركة في بورصة لندن (FTSE100).
رغم ذلك ما زال كثيرون يشكّكون بقدرة بيتكوين مثلاً على الاستمرار، أو بالقيمة الفعلية للقطاع بأكمله، وربما تشكيكهم بقدرة هذا القطاع على الاستمرار ليس في مكانه، ولكن ما يستحق التشكيك به فعلاً هو التأثير الذي ستستطيع العملات الرقمية تحقيقه، فحين ظهرت البيتكوين كانت ردة فعل بشكل أو بآخر على أزمة عام 2008 المالية، وجاءت كتعبير عن انعدام الثقة بالنظام المالي التقليدي ومحاولة لشق ثغرة تتيح للناس التخلي عنه والخروج نحو مساحة أرحب، مساحة قادرة على استيعاب الجميع وتسهيل معاملاتهم المالية بأمان، بدون أن يكون الثمن تربّح المؤسسات الكبرى.
ولكن التطوّرات التي شهدتها العملات الرقمية خلال ما يزيد على عقد من الزمن، ونوعية السوق التي خلقتها، توحي بأنها تشكل اليوم إضافة للنظام المالي التقليدي أكثر منها بديلاً عنه، وكي تتمكن العملات الرقمية أن تحقق بالفعل التغيير المرجو منها عند تأسيسها، عليها إتمام ثلاث مهام أساسية: تحقيق لامركزية حقيقية، والتخلص من وصمة الاستثمار، وبناء منظومة ويب 3 متكاملة.
لامركزية حقيقية
يعتمد تقييم أي مشروع عملة رقمية واتخاذ قرار الاستثمار فيها إلى حد كبير على مدى موثوقية الجهة المشرفة عليه، والأمر هنا مربك قليلاً لأن نجاح العملات الرقمية يعتمد بشكل كبير على امتلاك المؤسسة لمعرفة معمقة في مجالين: التكنولوجيا والقطاع المالي، ولكن في الوقت نفسه فإن مجرّد وجود جهة مشرفة يعدّ عيباً في أي مشروع عملة رقمية بشكل أو بآخر.
عندما حصل الانهيار الأخير لمشروع تيرا، اعتمد الجميع على مؤسسة “تيرافورم لابس” (TFL) للتحرّك كي تنقذ عملتي تيرا (LUNA) وتيرا يو إس دي (UST) [1]
من الانهيار وفقدان المستثمرين فيهما لقيمة استثماراتهم، كما حصل الأمر ذاته مع إيثريوم بعد تعرض أحد المشاريع القائمة على شبكتها لقرصنة كلفت المستثمرين حوالي 60 مليون دولار، في الحادثة المعروفة باسم “هجوم داو” (DAO hack)، حيث قامت مؤسسة إيثريوم حينها بترقية الشبكة لاسترجاع الأموال المسروقة، وانقسمت حينها إلى الشبكة الحالية والشبكة المعروفة اليوم باسم “إيثريوم كلاسيك”، كما تقوم المؤسسات المشرفة على مختلف العملات الرقمية بشكل دوري بتحديث شبكاتها وتوسيعها بهدف تحسين عملها أو تحسين أدائها السوقي على الأقل.
المشكلة في هذه الآلية هي أنها تتناقض مع المبدأ الأول للعملات الرقمية الذي يدافع عنه روادها، وهو اللامركزية، أي عدم وجود جهة وسيطة تشرف على عمل هذه العملات، بعكس مثلاً المصارف والمصارف المركزية التي تتولى دور الوساطة في مختلف المعاملات المالية التي نجريها اليوم.
طبيعة عمل تكنولوجيا سلاسل الكتل (blockchain) التي تقوم عليها العملات الرقمية تفرض وجود هذه المؤسسات في الوقت الحالي، وذلك لتحسين أدائها سواء الوظيفي أو السوقي، أو لتفادي العيوب التي قد تتسبب باختراق هذه الشبكات عبر استغلال الأخطاء في برمجيتها، فهذه الأخطاء تحتاج عادة لوقتٍ طويل كي يتم تصحيحها، وغالباً ما يكون ذلك عبر انقسام الشبكة وإنشاء شبكة جديدة.
ولكن من حيث المبدأ كي تتمكن هذه المؤسسات من ممارسة دورها، فإنها بحاجة لإجماع أعضاء مجتمع العملة الرقمية، وذلك سواءً عبر آليات التصويت التي تتيحها العديد من شبكات سلاسل الكتل، أو عبر القبول بالانتقال إلى سلاسل الكتل الجديدة عند إطلاقها.
تعتمد شبكات سلاسل الكتل اليوم بشكل مفرط على المؤسسات المشرفة عليها، إضافة لكون الكثير منها يتبع أصلاً شركات يتجاوز دورها تطوير منظومة العملة، خصوصاً مثلاً في حالة العملات المستقرة المدعومة باحتياطيات من الأصول التقليدية، الأمر الذي يجعل أهلية المؤسسة المشرفة، ومن خلفها المؤسسين الأوائل ومدى موثوقيتهم، أساساً لنجاح أي عملة رقمية، ومن الصعب الرهان على جودة هذه المعايير في مشاريع أساسها الأول هو اللامركزية.
لذلك لا بد لظهور العملة الرقمية القادرة على تحقيق الوعود الكبيرة التي يطرحها هذا القطاع من تحقيق اللامركزية المطلقة، حيث لا يتجاوز دور المؤسسين إطلاق الشبكة، كي لا تقع العملات الرقمية في فخ المركزية المفرطة التي تعيب القطاع المالي العالمي اليوم، والتي تؤدي لتهميش الكثيرين ممن جاءت العملات الرقمية اللامركزية كوعدٍ باحتضانهم.
التخلص من وصمة الاستثمار
حين نتحدّث عن العملات الرقمية، فإن تسعة من كل عشرة أشخاص متحمّسين لفكرتها يعاملونها كاستثمار يؤمنون أنه سيعود عليهم أو على من يلبّون دعوتهم للاستعجال في دخولها بالثراء، أو بالأرباح على الأقل، وهو أمر ممكن من حيث المبدأ ويحصل بشكل يومي تقريباً.
مع بداية ظهور العملات الرقمية، بيتكوين تحديداً، كان هناك نوعان من المؤمنين بها، الأول الذي يرى فيها مخرجاً من النظام المالي العالمي المغلق نسبياً يمكننا أخيراً من ملاءمة الخدمات المالية مع الثورة التكنولوجية التي جلبها الإنترنت، والثاني الذي رأى فيها أصولاً استثمارية بديلة للأصول التقليدية (كالأسهم والعقارات والعملات). مع الأسعار القياسية المتعددة التي حققتها البيتكوين، والتي تتبعها معظم العملات الرقمية الأخرى عادةً، لفتت العملات المشفرة انتباه الكثيرين كأتباع للرأي الثاني، وهم إلى حد ما من يقف خلف النمو المبهر لسوق العملات الرقمية في السنوات الأخيرة.
هذا التوجه أدّى لنتيجتين مهمتين من بين نتائج أخرى؛ الأولى هي الترويج للعملات الرقمية كاستثمار سهل الأرباح نظراً لتقلب أسعارها الشديد وما يعنيه ذلك من هوامش ربح (وخسارة) مرتفعة في فترات زمنية قصيرة مقارنة بالاستثمارات التقليدية، والثانية هي توجيه الكثير من الاستثمارات الجديدة لإنشاء عملات رقمية لا يبدو أن لها هدف أو فائدة واضحة – أو غير مسبوقة – سوى انتظار ارتفاع سعرها لتحقيق الأرباح المرجوة.
الاختلاف الأساسي بين الرأي الأول (المنفعة) والثاني (الاستثمار) يكمن بداية في أن الأول كان الدافع الحقيقي وراء ظهور العملة الرقمية الأولى والمحاولات السابقة لها التي لم ترَ النور، إلى جانب كون الرأي الثاني يحول دون تحقيق المنفعة الحقيقية من وراء العملات الرقمية.
تعجز اليوم معظم العملات الرقمية عن فرض نفسها كوسيط مقايضة أو أداة دفع معقولة بسبب تقلب أسعارها الشديد، والناجم بدوره عن معاملتها كأصول استثمارية “عالية المخاطر” لا كعملات، وحتى في الحالات القليلة نسبياً التي يتاح فيها الدفع باستخدام العملات الرقمية فإن ذلك يتم إما عن طريق العملات المستقرة، والتي تعدّ بحد ذاتها مشكلة نظراً لارتباطها بمؤسسات مالية تقليدية إلى حد ما ولارتباط قيمتها بعملات تقليدية، أو يتم استخدامها كمرحلة وسيطة بين عملة نقدية وأخرى، حيث يتم تحويلها لعملة نقدية أو مستقرة خوفاً من فقدان قيمتها.
بالطبع العملات التقليدية تعد أصولاً استثمارية بدورها ضمن الفوركس، ولكن تداولها بغاية الاستثمار يشكل نسبة ضئيلة مقارنة بحجم تداولها بهدف تسهيل الحصول على السلع والخدمات، وكي تحقق العملات الرقمية الانتشار الواسع بوصفها عملات لا أصول استثمارية، يجب بداية ألا يكون معظم من يقتنونها يفعلون ذلك بنية بيعها في وقت لاحق لا أكثر.
منظومة ويب 3 متكاملة
حين أطلق ساتوشي ناكاموتو البيتكوين، أطلق بدون قصد ربما ثورة تكنولوجية تبلورت للمرة الأول مع إيثريوم التي كانت تتبع خطى بيتكوين وتحاول في الوقت نفسه أن تستفيد بشكل أكبر من تكنولوجيا سلاسل الكتل أو البلوك تشين، حيث ظهرت العديد من التقنيات التي كانت نظرياً ممكنة قبل العملات الرقمية، ولكن العملات الرقمية شكلت الحافز المادي لتطوير هذه التقنيات.
هذه التقنيات تشمل العقود الذكية والرموز غير القابلة للاستبدال والتطبيقات اللامركزية والتمويل اللامركزي وغيرها، وتتيح بشكل عام تبادل المقتنيات الرقمية واستخدام التطبيقات والتصويت والاحتفاظ بالسجلات ومئات الوظائف الأخرى بدون الحاجة لمؤسسات أو سلطات مركزية تدير عملياتها.
القيمة التي تقدمها هذه التقنيات لا تخفى على ذي لب، فمن عاش في بلد يتعرض للعقوبات أو استخدم تطبيقاً تعرض للقرصنة يدرك قيمة التطبيقات اللامركزية، ومن تعرّض لفساد في سجلات حكومية أفقدته ملكية عقار أو عمل فني يدرك قيمة الرموز غير القابلة للاستبدال كسجل ملكية عصي على التزوير، ومن جرّب عدم الحصول على مبلغ تأمين رغم استحقاقه له يدرك قيمة العقود الذكية غير المشروطة بأحكام فردية.
إذاً المشكلة لا تتعلق اليوم بقيمة هذه التقنيات، إنما بدورها، فهي بدلاً من كونها مستخدمة لخدمة غاياتها، تُستخدم غالباً لخدمة منظومة سلسلة كتل معينة ومن ورائها قيمة عملتها، وما زال هناك حاجز كبير بين هذه التقنيات وتطبيقاتها الممكنة على أرض الواقع، يتمثل غالباً في الجانب التشريعي، والذي سيواجه تغييره مقاومة واسعة من جماعات ضغط المؤسسات المالية والتكنولوجية الكبرى في السنوات المقبلة.
ولكن بصرف النظر عن ذلك، فإن المشكلة الأهم بالنسبة للعملات الرقمية هي افتقاد الجسور المناسبة بينها وبين الأنشطة الاقتصادية على أرض الواقع، فسلاسل الكتل بشكلها الحالي لا تصلح سوى لتبادل العملات والرموز الرقمية، وكي تتم مبادلة هذه “المقتنيات” الرقمية بأخرى واقعية على شكل سلع أو عملات نقدية لا بد من وسيط يفتقد غالباً للامركزية والأمان المتوفران في العملات الرقمية.
ربما لم يعد من المناسب القول أن تكنولوجيا سلاسل الكتل والعملات الرقمية ما زالت حديثة العهد، فهي إن اعتبرنا أن بيتكوين هي منطلقها، فعمرها اليوم حوالي 13 عاماً، وباعتقادي نقطة البداية الأكثر إنصافاً هي إيثريوم التي انطلقت سنة 2015، ما يجعل عمر هذه التكنولوجيا 7 سنوات. في الحالتين فإن هذه الفترة الزمنية طويلة نسبياً مقارنة بالتطور السريع الذي تشهده الابتكارات التكنولوجية عادةً، ولكنها قصيرة في الوقت نفسه بالنسبة لتكنولوجيا سلاسل الكتل عموماً والعملات الرقمية خصوصاً لما تتطلبه من انتشار وتطبيق واسع لتحقيق التغيير المرجو منها، والخطوة الأولى لتحقيق هذا التغيير هي إبقاؤه بوصلة دائمة لأي مشاريع أو تحديثات جديدة تحصل في هذا القطاع.
ما ورد في هذا المقال يعبر عن آراء المدوّن ولا يعكس بالضرورة وجهات نظر أي جهات أخرى يعمل معها، كما لا تجوز معاملة هذا المقال بأي شكل من الأشكال كنصيحة استثمارية.
[1] الاسم والرمز المستخدمان عند انهيارها، أما اليوم فبات الاسم تيرا كلاسيك والرمز LUNC وتيرا يو إس دي كلاسيك والرمز USTC