من أصعب الأمور التي أحاول القيام بها هي الكتابة عن كتب نيكوس كزنتزاكيس أو محاولة تقييمها، هو من أهم الكتاب الذين عرفتهم الساحة الأدبية الحديثة، وبالنسبة لي هو الأهم على الإطلاق، وهذا الكتاب بالذات هو الأكثر لذة بالنسبة لمن يعشق هذا الكاتب، من حيث المبدأ من الممكن اعتبار هذا الكتاب سيرة ذاتية، ولكن نيكوس يبدأ الكتاب بقوله “هذه ليست سيرة ذاتية”، وبالفعل حين تتجاوز الفصول الأولى التي تتلكم عن طفولته ومراهقته فإنك تكتشف أن ما قاله صحيح، إن كنت تبحث عن معرفة تفاصيل حياة نيكوس فإن هذا الكتاب ليس ما عليكَ قراءته، ولكن إن كنت تريد أن تعرف تفاصيل ما كان يجري داخله، وتفاصيل صراعه من أجل تحقيق الارتقاء الذي سعى له طوال حياته، فهذا بالضبط ما عليكَ قراءته.
تنقل نيكوس على عدة مستويات، فمن كونه مسيحياً أورثوذوكسياً بحكم تربيته إلى مسيحي يملك إيمانه الخاص، ومروره بالبوذية والشيوعية وحتى نطقه بشهادتي الإسلام ومالا نهاية له من الإيمانات الوجودية، ولكن الغريب كان كيفية حفاظه على جميع تلك المعتقدات مجتمعةً دون أن تشعر بوجود تناقضٍ حقيقي بينها، يدخلك في متاهات بدل أن تجعلك ضائعاً وشاعراً بالتعقيد المتزايد للكون، تحملك إلى فهم الكون ببساطة أكثر، إلى إهمال ملايين التفاصيل والتمعن في الكل، الذي يتجاوز القوميات والأديان والفروق المادية.
أكثر الأمور التي جذبتني في الكتاب هو إعلاؤه من شأن اليونان، وبالتحديد كريت، الجزيرة التي خرج منها ليربك الكرة الأرضية كلها بكلماته، رغم كون وصفه لكريت واليونان إلا أن شيئاً في داخلك يشعرك أنه يتحدث عن مدينتكَ بالذات وعن قريتكَ بالذات وعن بلدكَ بالذات، الكلمات التي كتبها في حديثه عن وطنه هي بالذات الكلمات العالقة داخل كل منا محاولة الخروج للتعبير عما يختلجنا من مشاعر وأفكار تجاه أوطاننا.
أمتعتني في الكتاب فكرة أنه يتحدر من أصولٍ عربية، وفكرة أنه تحدث باللغة العربية بضع كلماتٍ عند زيارته لجزيرة سيناء ولفلسطين، ولكن الجزء الأكثر متعة كان المترجم، الكاتب السوري ممدوح عدوان هو من قام بترجمة هذا الكتاب، لستُ متأكداً إن كان قد ترجمه من اليونانية مباشرة أو عبر لغة وسيطة، ولكني متأكد من أنها أفضل الترجمات التي قرأتها لنيكوس كزنتزاكيس على الإطلاق، وأكثرها حفاظة على لذة النص.
أكثر الأجزاء متعة في الكتاب هي وصفه للصراع الداخلي الذي كانت يمر به حين كتب رواية زوربا وحين كتب الأوديسة، تشعر حينها أن ما تقرأ له هو مجرد القليل القليل مما أراد أن يقوله، وأنكَ في حين تظن أنكَ سمعتَ الكثير مما أراد أن يقوله للبشر، فإنكَ لم تسمع سوى القليل، بعض رؤس أقلام.
أنصح الجميع بقراءته، وبالتحديد النسخة الصادرة عن دار ممدوح عدوان والمترجمة من قبل ممدوح عدوان، وشهادتي بهذا الكاتب مجروحة دائماً كوني أعتبره أبي الروحي في الكتابة وفي الصراع من أجل فهم الكون، ولكن عليكم أن تكونوا حذرين، فقراءة هذا الكتاب دون أن تكونوا قد قرأتم بعضاً من أعمال نيكوس على الأقل قد تربككم، وقد تجعل الكثير من الأجزاء المهمة تمر دون أثر لديكم، أترككم مع هذا المقطع من الكتاب، ربما توضح عماذا أتكلم:
“إن الأزمنة التي نمر بها، والأزمنة التي هي أكثر رهبة والتي سيمر بها أبناؤنا وأحفادنا، هي أزمنة صعبة. غير أن الصعوبة كانت دائماً منشطاً للحياة. توقظ دوافعنا وتثيرها كلها، الخيرة منها والشريرة لتجعلنا نتجاوز العراقيل التي تبرز أمامنا بشكلٍ مفاجئ.
وبهذا نصل أحياناً إلى نقطة أبعد بكثير مما كنا نأمل: بحشد قوانا كلها، التي كانت لولا ذلك ستظل تعمل على مضض ومن دون تركيز. وذلك لأن هذه القوى المحتشدة ليست قوانا وحدنا، وليست أيضاً قوى بشرية فقط. القوى التي تتحرر فينا عند الدافع الأول الذي يعمل فينا من أجل أن نقفز هي وحدة من قوى ثلاثية: قوة الشخصية وقوى إنسانية وقوى قبل إنسانية.”
أعتقد أن ترجمة ممدوح عدوان هي نموذج يمكن تدريسه للترجمية السيئة شديدة المحلية المليئة بتعبيرات واصطلاحات غير متداولة، الا ربما في سوريا، وعلى الأخص في محيط ا. ممدوح عدوان نفسه.
ويبدوا انه أمر سيء أن يقوم كاتب بالنشر لنفسه، فلا معيار ولا رقيب ولا قيم على نفسه الا نفسه.