ما هو الأحمق المؤثر؟
الأحمق المؤثر هو شخصٌ تنطبق عليه بدايةً التعاريف اللغوية لكلمة “أحمق”، وهي مثلاً في اللغة العربية “قليل العقل” أو “قليل العقل فاسد الرأي يأتي بأعمال لا معنى لها”. ولكن إضافة إلى هذه الصفة البسيطة التي يتسم بها، فإنه مؤثر، وذلك بشكل أساسي بفضل قدرته على الوصول إلى مجموعة كبيرة جدّاً من الحمقى.
الحمقى المؤثرون يعدّون بمئات الآلاف إن لم يكن الملايين في العالم، صفاتهم الأساسية هي: (1) امتلاكهم لقدر ضئيل من المعارف السطحية، التي لا تتجاوز ما يستطيع أي إنسان تحصيله بمجرّد التعرّض السلبي لمختلف أشكال الأحاديث اليومية سواءً في اللقاءات الشخصية أو على المنصات الإلكترونية أو في صحافة التسلية، و (2) عدم امتلاكهم لرؤيا أو آراء عميقة أو بعيدة النظر، ولا تتجاوز مواقفهم من العالم المادي والمعنوي المحيط بهم ردود الأفعال المباشرة المبنية على ما اختير لأمثالهم مسبقاً و(3) قدرتهم على الوصول لمجموعة واسعة من الأشخاص بفضل بيئة الاتصالات الحديثة، ويكون معظم جمهورهم من أمثالهم لناحية الآراء والخلفيات ونظام القيم.
كيف أصبح الأحمق مؤثراً؟
هناك نظريات كثيرة بهذا الخصوص، ولكنها جميعاً تصب في مجرى واحد: عبر التمادي بحماقته.
مثلاً إن كنتَ مدخناً، جميع غير الحمقى الذي درسوا الطب وأجروا أو على الأقل قرؤوا أبحاثاً طبية سيخبرونك أنها عادة سيئة، وأن من الأفضل لكَ ألا تدخن. ولكن إن كنتَ أحمقاً، سيعجبكَ أن تسمع أحمقاً آخر يخبركَ أن التدخين ليس عادة ضارة كما يشاع عنها، والدليل أن جدّه كان يدخن وعاش حتى عمر التسعين سنة. وعلى هذا المنوال، كل ما تمادى الأحمق في حماقته، جمع حوله الحمقى الذين يعجبهم أن يسمعوا ويقرؤوا وحتى أن يشاهدوا ما يدعم رؤيتهم أو أمنياتهم بخصوص هذا العالم.
ولكن لا يكفي أن تكون أحمقاً يقول الحماقات كي تجمع حولك الكثير من المتابعين والمعجبين الحمقى، إنما عليكَ أن تتمادى في حماقتك، أن تبذل بعض الجهد الإضافي لكي تصبح مؤثراً. بعضهم مثلاً أخذ قفزة نوعية وقرر أن يكتب باللغة الفصحى، أو أن يصور حماقاته بدلاً من الصراخ بها في المقهى أو الحانة مساءً، أو ألا يكتفي بحماقة أو اثنتين، بل أن ينشر عشرات الحماقات كل يوم بحيث تكون هناك دائماً مجموعات صغيرة من الباحثين عمّن يخاطب السطحية داخلهم تنضم إلى قاعدة مريديه.
الخطير في الأمر، أن الأحمق المؤثر يملك ميزة لا يملكها سواه من العارفين بما يتكلمون عنه أو من الذين يبذلون الجهود الفعلية للوصول إلى الحقيقة أو الجمال مثلاً، وهو الجمهور… وفي ظل الخوارزميات الصناعية التي تحكم بشكل أو بآخر ما نعرفه من حقائق وما نستقبله من فنون، أصبح بإمكان أي أحمق لديه ما يكفي من الجمهور الذين يدعمون محتواه الفارغ أن يحدد ما هي الحقيقة وما هو الفن.
والأسوأ أن الأثر امتد إلى المؤسسات التي كان مناطاً بها سابقاً أن تنظم هذه العمليات، وأن تحرص على بقاء نادي الحقائق والفنون حصرياً لأصحاب العقول النيرة والمعارف الكافية، وسعياً منها للنجاة والحفاظ على ماء وجهها في ظل الشعبية المتزايدة للعاديين، أصبحت تحتضن الحمقى، وتزرع الرصاصة الأخيرة في جسم العلوم والفنون: منح المصداقية للحمقى ووضع ختمها للتصديق على حماقاتهم.
انظروا حولكم، وراقبوا الأمور بتمعن لتدركوا ما المعني بهذا؛ دور النشر تنشر الكتب لمن لديهم عدد أكبر من المتابعين، المؤسسات الصحفية الجديدة تنشر مقالات لذات الصحفيين – الذي لم يمتهنوا الصحافة إلا رغبة منهم بالارتقاء بحماقتهم إلى مستوىً أكثر احتراماً – بسبب عدد القراء الذين يمكنهم جلبهم إلى مواقعهم، وحتى إنها ترفض أحياناً نشر شيءٍ سوى الحماقات التي تجمع لهم ما يكفي من الجمهور الذي يشاهد إعلاناتها، والذي لا يرغب بتعكير صفو دماغه المسطح بأي أفكارٍ خارجة عن المألوف أو معلوماتٍ لا تدعم رؤيته الطوباوية لعالم يرى أنه المحق فيه.
الحلقة المفرغة
تعتبر أزمة الأحمق المؤثر أزمة لأنها تعمل وفق آلية تجعلها تقريباً مستحيلة التلاشي، بل ومحكومة بالنمو، مغذية معها كل أعشاب الحماقة المحيطة بها.
ببساطة مع تزايد الحمقى المؤثرين، أصبحت الحماقات هي المحتوى الأساسي الذي يتعرّض له معظم الحمقى العاديين، ومن بينهم من هم في مساحة رمادية بين الحماقة واللاحماقة، حيث إن فقرة صغيرة تقول تماماً ما يقوله الجميع ولا تدفع للتأمل أو التفكير لأكثر من مدة قراءتها، أهون على رماديي الحماقة من مقال تستغرق قراءته نصف ساعة، ويحتاج للبحث عن مصادر معلوماته، والأصعب حين لا يكون في المقال بسبب انعدام حماقة كاتبه موقف واضح من موضوع المقال، فيكون على الأحمق الرمادي تحمّل عناء اتخاذ موقف خاص به، وقبل ذلك التفكير والتمعن في المسألة، الأمر الذي سيتخلله غالباً بعض الشرود، وبالتالي كما يفعل جميع الحمقى المعاصرون يلجأ لهاتفه كي يتسلى قليلاً فيكون الأحمق المؤثر بانتظاره بموقف جاهز؛ هذا الأمر أبيض، هذا الأمر أسود… تفضل، لا شكر على واجب!
إذاً بفضل الحمقى المؤثرين والسهولة التي يضيفونها على الحياة الخالية من التفكير للحمقى العاديين، أصبح الحمقى العاديون بازدياد، واحتمالات أن ينجو إنسان من مطحنة السطحية ويقرر أنه لن يكون أحمقاً ولن يستمع للحمقى تصبح أقل. بالمقابل فإن ازدياد الحمقى العاديين يزيد من قوة الحمقى المؤثرين، فالقوة الأهم في العالم هي المال، ومن يملك المال يريد جني المزيد منه، وليجني المزيد منه هو بحاجة لمجموعة من البشر تقتنع بدفع المال له، وبما أن مجموعة الحمقى العاديين هي الأكبر في العالم، ستصب معظم الاستثمارات المالية، التي تتفرّع بعد دفع المال إلى شتى أنواع الاستثمارات في الأفكار والمحتوى والعلوم والفنون، في صالح الحمقى المؤثرين.
ولكنهم… حمقى.
ذلك يعني غالباً أن ما سينتج عن هيمنتهم، وهيمنة نظام قيمهم الذي لا يعرفون غالباً ما هو أصلاً، ليس أكثر من… لا شيء، عشوائية وتبطّل وفي النهاية نصبح عالقين في حفلة حماقة لا يسعنا الخروج منها لأن غير الحمقى… حمقى ويفضلون عدم جرح مشاعر البشر على أن يمسكوا بالحمقى المؤثرين من ياقتهم وحزامهم ويطردونهم كما تفعل أي حانة محترمة مع من يتفوه بالحماقات بصوتٍ مرتفع.