مقدمة “راعي القطيع”: مرايا بيسوا ترى بعضها

بيسوا، كما يعرف كثيرون، لم يستخدم اسمه في كثير من الأحيان للتوقيع على نصوصه. إذ عاش بيسوا، في مخيلته على الأقل، حياة ما لا يقل عن 72 كاتباً حسب ريتشارد زينيث، وإن كان بعضها يعود لمراحل حياته المبكرة حين كان يغير أسماءه المستعارة بكثرة وإنتاجها هامشي الحجم، فإن هناك ثلاثة أسماء برزت متكاملة كشخصيات كتابٍ مرموقين؛ ألفارو دي كامبوس، وألبرتو كاييرو، وبالطبع ريكاردو ريس.

نشر بيسوا في عام 1914 “راعي القطيع” بتوقيع ألبرتو كاييرو، وقبل الوصول للصفحة الأولى، كانت أول لآلئ الكتاب، مقدمة بقلم ريكاردو ريس، متحدثاً عن ألبرتو كاييرو، ويقول فيها أنه صنف القصائد المتناثرة لكاييرو في مجموعة تدعى “قصائد غير متجانسة” بناءً على اقتراح… دي كامبوس.

في الفقرة الأولى من مقدمة الكتاب يحشد بيسوا كل مردته المتخيلين متسبباً بلحظة غريبة من آدابه، حيث لا يبدو واضحاً المخفي من هذه الفقرة، أهو يجمع شخصياته الأخرى في لحظة انزلق فيها إلى رومانسية طائشة؟ أم إنه يسخر من الأدب فيما يكتب أروعه عبر إظهار انعدام المعنى لعدد الذين يصدّقون على أديب ما أو أحد أعماله؟ وحتى بقية المقدّمة يبدو فيها ريكاردو ريس إنساناً من لحم ودم عاجز عن إخفاء مشاعره تجاه الشاعر الميت الذي يقدّم لقصائده، فمرّة “لا يوجد في حياة كاييرو ما يمكن أن يحكى”، وثم “يمثل عمل كاييرو الشعري إعادة بناءٍ كاملة للوثنية في جوهرها المطلق. على نحو لم يستطعه، لا الإغريق ولا الرومان”.

حتى إنه أحياناً أثناء مديحه له ينزلق لذمّه، والعكس صحيح؛ “لقد صنع كاييرو وهو الجاهل بالحياة وبالأدب أو يكاد. وبدون ثقافة ولا معايشة للغير، أثره بواسطة تقدم محسوس وعميق”.

يقدّم بيسوا مرتدياً إحدى أقنعته الأدبية الكثيرة للقناع الآخر، يقيّمه ويلخصه كما لو أنه – بيسوا هذه المرة – يراجع تجربته الشخصية، يفكّر بصوتٍ مرتفع. والاختلاف بين الشخصيات الأدبية الخاصة بهذين القناعين، يجعل حديثه هذا مراجعة حتى للتغيير الذي يصيبه، مصوّباً أخطاء وعيوب شخصيته الأدبية السابقة ومقدماتها، ويفندها من منظور الشخصية الجديدة/القديمة التي ستكون لها سطوة على العديد من الأسماء الأخرى لاحقاً.

“لا مطامح لديّ ولا رغائب

كوني شاعراً ليس مطمحي الخاص

هو طريقتي في أن أكون وحيداً”

كاييرو

فشخصية كاييرو الأدبية حزينة سوداوية، أشعاره تبدو بحد ذاتها انتفاضات أخيرة من روح محطمة. الطبيعة حاضرة في أشعاره كثيراً، ويبدو من أشعاره وكأن حياته كانت تأملاً طويلاً، تقاطعه الهموم التي لا مهرب منها في الحياة، وتتسبب بكآبة وتململ من الحياة يضافان إلى سوداويته المفرطة. بينما ريكاردو ريس يسير بقدميه على الأرض، ويتأمل في العاطفة البشرية وأزماتها الصغيرة اليومية، وإن كان كلاهما يتوخيان الخلاص من القلق الدائم الذي تسببه الحياة.

لنكن بسطاء وهادئين مثل الجداول والأشجار.
سوف يحبنا الله ويجعلنا جميلين
كالجداول والأشجار.
ويهبنا زهوراً في الربيع
ونهراً يحملنا عندما حياتنا تنتهي
كاييرو
ولنحيَ هكذا متوخّين أقل ألم أو متعة،
محتسين على جرعات اللحظات الطرية،
شفافين مثل ماءً في أكواب منقوشة.
آخذين فحسب من الحياة الشاحبة
الورود القصيرة، الابتسامات الغامضة،
والمداعبات السريعة
للحظات المقبلة.
– ريس

بعد أن نغادر هذه المتاهة الثقيلة بين شخصيات بيسوا المختلفة، ونكون مجهزين للتمعن في كاييرو من خلال شعره، يطالعنا في البيت الأول من كتابه بتحذيره المبطن من وجود قناعٍ آخر له، وطبقة أخرى من التخفي علينا البحث عنها وإزالتها كي نصل أخيراً إلى كاييرو “الحقيقي”، إذ يفتتح قصيدة “راعي القطيع” – التي يحمل الكتاب اسمها أيضاً وتتصدّره – بقوله:

لم أرعَ أي قطعان قط،

لكن يبدو كما لو أنني رعيتها.

*الصورة من بلاتفورما ماكاو

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها