ما زال السفر بالزمن مستحيلاً، ولكن في الشعر كل شيء ممكن، وحين يكون المسافر بيت شعرٍ أو قصيدة، فإن رحلة من بغداد في العصر العباسي إلى إسبانيا الحديثة ليست أمراً مستحيلاً، وهذه رحلة بيتٍ واحد من الشعر مهدت لها تقاليد الجاهلية في الشعر، وأخذت شطراً من هذا البيت إلى إسبانيا بعد أكثر من 11 قرناً.
كما بكى ابن خذامِ
تبدأ الحكاية من من العصر الجاهلي وقصائد البكاء على الأطلال، وتحديداً من أقدم شاعر جاهلي موثق؛ امرؤ القيس، الذي حين نقرأ شعره، غالباً ما نبدأ بقصيدته الأشهر ذات المطلع:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل بسقط اللوى بين الدّخول فمنزلِ
تقليد البكاء على الأطلال في القصائد العربية قديم قدم الشعر العربي نفسه، كما يقول د. شوقي ضيف في الجزء الأول من موسوعته “تاريخ الأدب العربي”، وأقدم ما وصلنا عن قصائد بكاء الأطلال هو شاعر اسمه ابن خذام دون أن يصلنا شعره، الذي لا نعرف عنه “شيئاً سوى تلك الإشارة التي قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف في الأطلال”، والتي ترد في بيت شعر لامرئ القيس يقول فيه:
عوجا على الطل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذامِ
ويضيف د. ضيف أن مطولات الشعر الجاهلي كانت تسير وفق نظامٍ معين يشكل بكاء الأطلال دعامته، “إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالباً بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم في الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيراً ما يشبهون الناقة في سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحاً أو هجاءً وفخراً أو عتاباً أو اعتذاراً أو رثاء”.
استمرت تقاليد بدء القصائد ببكاء الأطلال في العصور التالية، وإن لم تهيمن كما كانت في ما وصلنا من الشعر الجاهلي، حتى وصلت إلى أحد أشهر شعراء العصر العباسي، أبو تمام البغدادي، صاحب “فحول الشعراء” و”ديوان الحماسة”، الذي كان كعادة الشعراء ينظم شعر النسيب، أو المديح، والذي كان مصدر رزق الكثير من الشعراء في ذلك الوقت، خصوصاً الموجودين في بلاط الخلفاء والولاة.
نظم البغدادي قصيدة من أربعة وستين بيتاً يمدح فيها أبا سعيد بحسب شرح الخطيب التبريزي لقصائد أبو تمام، وأغلب الظن أن “أبو سعيد” هذا هو أبو سعيد الثغري، الذي عرف بهذا الاسم لكثرة ما رابط على ثغور الدولة الإسلامية، سواء في موقعه في أرمينيا، أو المعارك مع البيزنطيين وحروب الخليفة المعتصم مع الخرميين في بلاد فارس. يقول البغدادي في مطلع القصيدة:
لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديار خف الهوى وتولّت الأوطار
كانت مجاورة الطلول وأهلها زمناً عذاب الوِرْدِ فهي بحارُ
يستمر البكاء على الأطلال في الأبيات السبعة الأولى، ولا نعرف إن كان بالفعل يعبر فيها عن فقد حقيقي لحبيب أو صاحب، أم إنه مجرد اتباع لتقاليد العرب في الشعر، وفي البيت الثامن يبدأ بمديح أبي سعيد قائلاً:
قد صرحت عن محضها الأخبار واستبشرت بفتوحكَ الأمصارُ
خبر جلا صدأ القلوب ضياؤه إذا لاح أن الصدق منك نهار
لولا جلاد أبي سعيد لم يزل للثغر صدرٌ ما عليه صدارُ
من ديوان الحماسة إلى ديوان التماريت
تُعتبر قصيدة “أغنية السائرين نياماً” (Somnambular Ballad) – أو “السائر في نومه” في ترجمة سعد صائب – من أكثر القصائد التي تعرضت للتحليل والتفسير، ويعتبرها كثيرون الأفضل في ديوان “أغانٍ غجرية” (Romancero Gitano) إن لم تكن أفضل قصائده.
تبدأ القصيدة بوصف الشاعر لكم يحب اللون الأخضر في مواضع مختلفة:
خضراء، كم أحبكِ خضراء
ريحاً خضراء، وأغصاناً خضراء
السفينة في البحر
والفرس على الجبل
بظل أخضر على خاصرتها
وبعد أن يستمر المقطع الأول على هذه الشاكلة، ينتقل المقطع التالي إلى حوارٍ بين شابٍ ورجل مسن، يعرض فيه الشاب على الرجل المسن الذي يدعوه بالعراب (Compadre) عدة صفقات، ويجيب الرجل المسن بالرفض دائماً:
أرغب أيها العراب أن أقايض
حصاني بمنزلك
وسرجي بمرآتك
وسكيني ببطانيتك
فيجيبه الرجل المسن:
لو استطعتُ يا بني
لكنتُ أتممتُ الصفقة
لكن أنا لم أعد أنا
ولا منزلي هو منزلي
العبارتان الأخيرتان “لكن أنا لم أعد أنا – ولا منزلي هو منزلي” (Per yo ya no soy yo, ni mi casa es ya mi casa) تتكرران مجدداً بعد عدة أبيات. في بحث نشراه سنة 2003 في “مجلة الأدب العربي” (Journal of Arabic Literature) الصادرة عن دار نشر “بريل” (Brill) الهولندية، يرى الباحثان ميغويل أنخيل فاسكيز وروبرت ج. هافارد أن هذا المقطع ما هو إلا اقتباس للشطر الأول من بيت أبي تمام “لا أنتِ أنتِ ولا الديار ديار”.
ويقول الباحثان أن تأثر لوركا بالتراث العربي لا يقتصر على هذه القصيدة، إنما يظهر في كثير من المواضع الأخرى التي يختار فيها الألفاظ الإسبانية الأقرب لكلمات عربية، مثل تسميته لديوان التماريت (Divan Del Tamarit) التي يستخدم فيها الكلمة الموازية لكلمة “ديوان” العربية التي تعني كتاب شعر أو مجموعة شعرية في العربية، وهذا الديوان ذاته يتألف من قسمين: الغزلان (gacelas) القريبة في اللفظ من كلمة “الغزل” في العربية والقصائد (casidas) وهو الاسم الاسباني للقصيدة العربية.
ولكن كيف وصلت قصيدة أبي تمام إلى لوركا الذي لا يعرف العربية؟
الوسيط الأكثر احتمالاً هو الشاعر الأندلسي ابن خفاجة، والذي اقتبس الشطر الأول من قصيدة أبي تمام قبل لوركا،ليصف الحدث الأكثر تكراراً ومأساوية في حياة عرب الأندلس، وهو تساقط مدنهم واحدة تلو الأخرى في يد القشتاليين بدءاً من عام 1064 حين سقطت مدينة بربشتر وانتهاءً بعام 1492 مع سقوط غرناطة آخر معاقل العرب في شبه الجزيرة الإيبيرية، وقد شهد الشاعر بن خفاجة سقوط مدينة بلنسية، وقال في وصف هذا الحدث:
عاثت بساحتك العدا يا دارُ ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيكِ واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها “لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ”
يكتسب الحدث الذي نظمت لأجله هذه القصيدة أهمية كبيرة في التاريخ الأوربي، والإسباني خصوصاً مع حضور رودريغو دياث دي فيفار أو “إل سيد”، أبرز قادة حروب الاسترجاع أو “ريكونكويستا”، لذلك تمت ترجمة القصيدة إلى لغات أوربية عدة.
يقترح جيمس ت. مونرو، في كتابه “الإسلام والعرب في البحوث الإسبانية: القرن السادس العشر إلى الحاضر” أن يكون لوركا قد قرأ ترجمة خوان فاليريا لهذه الأبيات إلى الإسبانية ضمن ترجمته لكتاب “فن العرب وشعرهم في إسبانيا وصقلية” لأدولف فريدريتش فون شاك، أو ترجمة خوان ماكادو ألفاريز للقصيدة، التي استقاها من ترجمة المستشرق الهولندي رينهارت دوزي.
شاعر آخر اقتبس هذا البيت في قصيدته، هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، في ديوانه “لا تعتذر عما فعلت” (2004)، ويقول فيه:
إن عدت وحدكَ قلْ لنفسك:
غيّر المنفى ملامحه…
ألم يُفجع أبو تمام قبلكَ
حين قابل نفسه:
“لا أنتِ أنتِ
ولا الديار هي الديار”
على تنوع وتباعد أزمنة وعصور الشعراء الذين رددوا هذا البيت من الشعر، فإن ما يجمعهم هو إبعادهم عن أوطانهم، سواء لأسباب اقتصاديةكالبغدادي الذي غادر موطنه منذ نعومة أظفاره إلى مصر ليعمل ساقياً هناك قبل انتقاله لبغداد وثم إلى الكوفة التي مات قبل أن يتم عامه الثاني فيها، أو الطرد مثل ابن خفاجة الذي شهد اندثار مدينته وتبدل وجهها، أو حتى الطرد من الحياة، كما أصاب لوركا الذي حكم عليه الجنرال فرانكو بالإعدام بعد وصوله للحكم سنة 1936 بتهمة أنه جمهوري و”مثليّ”.