ربما من الصعب أن تكتب عرضاً لأحد كتب عزيز نيسين، سواء بسبب قامته الأدبية الكبيرة التي لم يستطع الكثيرون الارتفاع عنها، أو بسبب شمولية كتبه وصعوبة تحديد موضوعها، الكتاب الذي سأكلمكم عنه هو من كتبه قليلة الشهرة، على الأقل بالنسبة للقراء العرب، ولكنه بالفعل على المستوى الفكري من أهم ما قرأته لنيسين.
الكتاب هو “تري.. لي.. لَم”، أسلوب الكتابة هو المعتاد من نيسين، قصص قصيرة، أدب ساخر، ورمزية مؤلمة، وربما نحن العرب نفهم رمزيته ومواضيعه أكثر من غيرنا لأنه يتكلم عن واقعٍ اجتماعي وسياسي وثقافي باهت شديد الشبه بما نمر به اليوم، الكتاب لا يثير الضحك بقدر ما تفعل كتب نيسين عادة، ولا أدري صراحة إن كان السبب هو الكاتب نفسه أم المترجم، ولكن الرمزية في هذا الكتاب أقوى وأكثر إيلاماً من المعتاد، وملامسته لجروح الإنسان المقهور أكثر وقاحة من المعتاد.
مما يميز هذا الكتاب عن سواه من إبداعات نيسين هو التركيز على السياسة، وخصوصاً الشكل الذي تأخذه في الدول النامية، ولعل أحد أشد القصص تميزاً هي قصة “صراع الباذنجان”، وهي عبارة عن خطابات متبادلة بين حزبين؛ الحزب الحاكم والحزب المعارض، في دولة خيالية اسمها فارتفيكا، وتتمحور حول مشكلة يحاول الحزبان إقناع الشعب بأنها أصل مشاكلهم، وهي عدم تناول المواطنين ما يكفي من محشي الباذنجان، على الرغم من سخافة القضية ولكن كلا الحزبين يستخدمها لصالحه، فالحزب المعارض يتهم الحزب الحاكم بالتقصير وعدم الاكتراث بنقص محشي الباذنجان، والحزب الحاكم يحذر ويتسائل عن إلى أين – في إشارة إلى تعاونه مع الخارج – تمتد جذور الباذنجان الذي يريد الحزب المعارض زرعه؟ في نهاية هذه القصة تنقلب الموازين ويصبح الحاكم معارض والمعارض حاكم، وهنا يأتي الجزء المؤلم الذي يقدم فيه نيسين تحذيراً يصلح توجيهه للشعوب العربية مما بعد ثوراتها التي أعتقد أنه لم يرها آتية في حياته.
الكتاب على غير ما اعتاد السوريون ليس من دار علاء الدين السورية، وإنما من دار المدى العراقية، كما أن المترجم ليس جمال دورمش الذي اعتدنا عليه إنما عبد القادر عبداللي، أنصح بشدة بقراءته في هذه الأوقات السياسية العصيبة التي نمر بها، خصوصاً أن هذا الكتاب من أكثر كتب نيسين الذي يركز على الجانب السياسي، ولكن لا أنصح من لم يقرأ لنيسين قبلاً أن يبدأ بهذا الكتاب، إذ لن يكون مشجعاً كثيراً…