تظهر كل حين وآخر دعوات لاستخدام اللهجات العامية بديلاً للغة العربية المعيارية في الترجمة والآداب ومختلف النواحي الأخرى، والكثير من هذه الدعوات قائمة على توجهات سياسية محدودة تدعو لاعتبار مختلف الدول العربية قوميات مستقلة عن القومية العربية، وهي غالباً ما تأتي كآراءٍ الغاية منها حصد الموافقة أو الرفض، بدون أن تكون حقيقةً ذات إطارٍ عملي معقول قابل للتطبيق.
كي نكون قادرين على مناقشة الأمر بعقلانية، علينا أن نعترف بدايةً بأن مسألة الاختلافات الشاسعة بين اللغة المعيارية الحديثة واللهجات العامية ليست مسألة خاصة باللغة العربية، إنما هي ظاهرة حاضرة في مختلف اللغات، وإن كانت أقل حدة لناحية النحو والصرف وبعض الكلمات الأساسية في اللغة، ولكن اللهجات العربية المحلية في الجوهر ليست حالة فريدة، إنما الحالة الفريدة هنا هي الجذور القديمة للغة العربية وحفاظها على بنيتها النحوية والصرفية والإملائية لزمن طويل.
باعتقادي استخدام اللهجات العامية في الترجمة مثلاً ليس طرحاً واقعياً لعدة أسباب، أوّلها وأبسطها هو الجمهور. عندما نتحدث عن اللغة العربية المعيارية، فإننا نتحدث عن لغة يستطيع أي عربي ذي حد أدنى من التعليم أو التعرض لوسائل الإعلام العربية فهمها، حتى وإن كان عاجزاً عن القراءة والكتابة، وبالتالي فإننا عندما نتحوّل من العربية المعيارية إلى اللهجات العامية نضحي بقدرة الشريحة الأوسع من الجمهور على فهمها.
مثلاً ظهرت محاولة في تونس لترجمة الكتب – المترجمة للعربية أصلاً – باستخدام اللهجة التونسية. بعيداً عن تقييم مدى جودة هذه الترجمات، فإنها قبل كل شيء عصية على الفهم على الجمهور العربي في معظم الدول العربية، الجمهور الذي يبلغ أكثر من 400 مليون متحدث بالعربية (بما فيهم المتحدثين بها كلغة ثانية أو ثالثة) تم تقليصه إلى حوالي 90 مليون إذا افترضنا أن الجزائريين والمغاربة قادرون على فهم اللهجة التونسية بشكل تام، وحوالي 12 مليون تونسي إن تخلينا عن هذا الافتراض الذي سيرفضه الكثيرون في المغرب والجزائر.
وثاني الأسباب هو أن اللهجات العامية تطرح إشكالية مماثلة لإشكالية العربية المعيارية مقابل العربية المحكية، فحين نقترح مثلاً الترجمة إلى اللهجة المصرية أو السورية، ما هو تعريف هذه اللهجة؟ في سوريا مثلاً لا توجد محافظتان تتكلمان بذات اللهجة، وداخل المحافظة الواحدة تتعدد اللهجات، كما هي الحال في ريف دمشق حيث يمكنك أن ترصد عشرات اللهجات التي يستعصي رصد الاختلافات بينها على غير المتحدثين بها، وهكذا سنقع في فخ الإقصاء للهجات المحلية من جديد، وستصبح لدينا بدل عربية معيارية، عربية محكية معيارية تفترض أن لهجة ما في بلد ما هي الثابت، واللهجات الأخرى هي المتغير، وستكون كذلك عصية على الفهم – وإن بدرجة أقل – على غير المتحدثين بهذه اللهجات “المركزية”.
من أبرز ميزات اللهجات العربية أنها تختصر الأصوات العربية، وفي كل لهجة يوجد على الأقل حرفان عربيان يلفظان بذات الصوت، الظاء والضاد في اللهجة العراقية، القاف والهمزة في بعض اللهجات الشامية والمصرية، الجيم والياء في بعض اللهجات الخليجية، إضافة لاستخدام الأصوات غير العربية أصلاً مثل صوت الجيم في معظم اللهجات المصرية، والذي يستخدم لحرف القاف في العديد من اللهجات العربية الأخرى من المغرب إلى الإمارات، الأمر الذي سيتسبب ولا بد بارتباك في كيفية خط هذه الكلمات دون حدوث التباس داخل البلد نفسه، مثلاً بالنسبة للمصري الذي يلفظ الجيم بصوتها العربي، في المناطق الجنوبية خصوصاً، وإلى آخره من معوقات خط الكلمات العامية.
تتميز اللهجات المحلية بمرونة لا يمكن إنكارها عند استخدامها في المسائل اليومية، ولكن إن أردنا التحدث بمواضيع علمية أو فكرية أكثر عمقاً سنجد أنفسنا لا إرادياً نتجه لاستخدام العربية المعيارية – عبارات وكلمات – ضمن حديثنا بالعامية. مركزية اللغة العربية تعود في جزء منها لكونها لغة القرآن، ولكن باعتقادي العامل الحاسم في مركزيتها المعاصرة هو كونها أولاً لغة وسائل الإعلام التي يستمع إليها الكثيرون ويتعرّضون لها أكثر مما يتعرّضون لخطاب عائلاتهم لأكثر من ثمانين عاماً، الأمر الذي تعمّق مع ظهور القنوات الفضائية والإنترنت، وثانياً لكونها لغة التعليم في الدول التي تقدّم التعليم باللغة العربية، وثالثاً كونها لغة الكتب العربية لمئات السنين، خصوصاً تلك المترجمة والمؤلفة في القرنين الماضيين، والتي تشكل الطبقة الأساسية لثقافتنا المعاصرة.
اللهجات المحلية تفتقد ببساطة للدقّة الضرورية عند الترجمة من لغات أجنبية، وكما تقول وفيقة المصري في مقالها عن ترجمة ضياء بوسالمي لرواية “الغريب” لألبير كامو إلى اللهجة التونسية “إن كان الأدب بالفصحى معقّداً وينأى بالقارئ العادي عن لغة الواقع الذي يعيشه من وجهة نظر مؤيدي الكتابة باللهجات المحكية، فإن الترجمة إليها قد تنأى بالنص الأصلي عن واقعه وتقتل ما تبقى من روحه بعدها”.
إذاً ما الحل؟
بدايةً لا بد من الاعتراف بأن هناك العديد من المجالات التي لا يمكننا استهجان استخدام اللهجات العامية فيها، خصوصاً الشعر الذي أثبت في كثير من المواضع أن كتابته بالعامية كانت ضرورية ومفيدة، سواءً بالنسبة للشعر النبطي – الذي لا يستخدم أصلاً اللهجات المحلية بشكلها المعاصر – أو بعض الشعراء الذين كتبوا بالمحكية واكتسبوا مكانة رائدة في عالم الأدب العربي، وكذلك الأمر بالنسبة للكثير من المدونات التي كان استخدام العربية المعيارية سيفقدها الكثير من روحها وجودتها.
المشكلة التي نواجهها اليوم تتعلق بالعربية المعيارية، والتي علينا أن نبدأ باستخدام هذه التسمية لوصفها بدلاً من الفصحى كي نميّز العربية التي نستخدمها اليوم عن العربية الكلاسيكية التي استخدمت منذ 14 قرناً، فمصدر عجز هذه اللغة في كثير من المواضع لا يعود لعيوب في جوهرها أو بنيتها، بقدر ما يعود لنقص في قاموسها.
التجربة أظهرت أن الاعتماد على مجمعات اللغة العربية لتحديث اللغة أمر لا طائل منه، سواءً بسبب لامركزية هذه المجمعات، وبالتالي وقوعها في ذات معضلة اللهجات العامية المحلية من عجز عن إضافة مصطلحات تصلح للاستخدام مع أي متحدث بالعربية، وثانياً بسبب بطء عملها وضيق اطلاعها وعجزها عن تقديم حلول معقولة للمعاني التي لا نملك مصطلحات عربية أو معرّبة للتعبير عنها حتى الآن.
في الوقت نفسه يجب أن ندرك ميزة هامة في اللغة العربية، وهي أنها مهيأة منذ كتابة قواعدها لاستقبال الكلمات الأجنبية، أو الأعجمية، دون الحاجة لموافقة أحد، مع الحاجة – غير الإلزامية – لتطويع لفظها بما يتوافق مع الصرف العربي، كتحريك أحد الساكنين عند التقائهما في الكلمة المراد نقلها للعربية أو قلب الأصوات غير العربية للصوت العربي الأقرب لها، وهو أمر ليس خاصاً بالعربية، في اللغة اليابانية مثلاً يتغير لفظ الكثير من الكلمات الإنجليزية عند استخدامها في اليابانية، سواءً لتكون ممكنة الكتابة باستخدام المقاطع الصوتية المتوفرة في اللغة اليابانية، أو لإمكانية لفظها باستخدام الأصوات اليابانية التي لا تغطي كل الأصوات الإنجليزية.
ما نحتاجه لهذه المعضلة هو بعض الشجاعة عند الكتابة بالعربية المعيارية، عدم التردد في استخدام الكلمات العامية التي لا نظير فصيحاً لها، وهي ممارسة تفوّق الأدب العربي في اعتمادها بأشواط على الكتابة العلمية. كما علينا الاعتراف بأن العربية المعيارية ذاتها ستشهد – شئنا أم أبينا – اختلافات بين بلدٍ أو إقليم وآخر، وهو أمر غالباً لا يتسبب بصعوبة في الفهم، ومشابه لحالة اللغة الإنجليزية بين الولايات المتحدة وإنكلترا، أو الفرنسية بين فرنسا وبلجيكا وكيبيك، أو البرتغالية بين البرتغال والبرازيل وأنغولا…ألخ.
إذاً ما نحتاجه هو بعض الشجاعة لا أكثر، والتعامل مع اللغة العربية كأداة وظيفية نافعة لا بد لنا من تطويرها للحفاظ على سهولة التواصل بين أكثر من 300 مليون متحدث بالعربية كلغتهم الأم، بعيداً عن الإطارات الأيديولوجية والسياسية التي غالباً ما ترافق أي حديث عنها، وكي نتمكن من توسيع قاموسنا لا بد من قبول المزيد من الكلمات الأجنبية والعامية في لغتنا، وفي الوقت نفسه عدم الخوف من ترجمة بعض المصلحات كما هي وإن بدت “سخيفة” أو “غير عربية”، ولنا في الإنجليزية خير مثال على ضرورة الاستيراد الدائم للكلمات من اللغات الأخرى كي تبقى اللغة حية قادرة على النمو والتطور، أو كما يصفها جرجي زيدان: كائن حي.