“لعبة الكرات الزجاجية” هي الرواية الكاملة الأخيرة لهرمان هيسه، نشرها للمرة الأولى في 1943 في سويسرا لعجزه عن نشرها في ألمانيا إثر موقفه المعادي للفاشية. الرواية تتحدث عن يوزف كنشت رئيس لعبة الكريات الزجاجية أو “الماجستر لودي” في الطائفة الكستالية، وهي طائفة من الأشخاص شديدي المعرفة، اعتزلوا المجتمع وأقاموا نظامهم الخاص، لتقتصر مساهمتهم في المجتمع على تقديم المعلمين للمدارس، وفي الوقت نفسه ضم الطلاب المتميزين منها إلى طائفتهم.
أما لعبة الكريات الزجاجية فليس واضحاً في الرواية ما هي بالضبط، ولكنها ببساطة ترمز للتباري بين أبناء الطائفة الكستالية في المعرفة عبر وضع هذه المعرفة ضمن أنساق ذات طبيعة موسيقية، يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام أساسية – إضافة إلى مقدمة المؤلف المتخيل للسيرة – وهي سيرة يوزف كنشت وأشعار يوزف كنشت، والسير الثلاث، وهي سير ذاتية مقتضبة كتبها كنشت يتخيل نفسه في كل واحد منها شخصاً مختلفاً في عصر مختلف كجزء من واجب مدرسي.
رغم أن هذه الرواية تختلف في طبيعتها عن معظم روايات هيسه الأخرى، إلا أنها كانت وراء فوزه بجائزة نوبل للآداب، وبرأيي كانت الأكثر إصابة للعيوب البشرية من الناحية المعرفية، والأهم من الناحية الجمعية، عكس الجانب الفردي الذي تعالجه معظم رواياته، مثل “سدهارتا” و”ذئب وسهوب”، فهي تنتقد بشكل أساسي رد الفعل النخبة الثقافية والمعرفية على نزوح المجتمعات البشرية بعيداً عن المعرفة والاتجاه نحو الترفيه والاستهلاك، الحالة التي يصفها باسم “عصر صحافة التسلية”، الجانب الذي لا يركز عليه كثيراً في الرواية سوى في مقدمتها، ويصف برأيي بشكل كبير الحالة التي نعيشها اليوم.
عصر صحافة التسلية
ينسب هرمان هيسه الوصف الذي يورده عن عصر “صحافة التسلية” إلى مؤرخ الأدب بلينيوس تسيجنهالس، وهو شخصية متخيلة كجميع شخصيات الكتاب، ويقول أن عصر صحافة التسلية لم يكن عصراً مجرداً من الفكر أو يفتقر إليه، إلا أن ذلك العصر “لم يعرف كيف يفيد من فكره إلا قليلاً، أو على الأصح لم يعرف السبيل إلى منح الفكر المكان والوظيفة المناسبين له في نظام الحياة والدولة”.
صحافة التسلية “تُنتج بالملايين وكادت تكون الغذاء الرئيسي للقراء المحتاجين إلى التثقيف، وكانت تروي أخباراً أو الأصح (تثرثر) في آلاف مؤلفة من الموضوعات الخاصة بالعلم”، وكانت “أحب موضوعات هذه المقالات إلى نفوسهم طرائف من حياة مشاهير الرجال والنساء ومن رسائلهم. وكانت هذه المقالات تحمل عناوين مثل (فريدريتش نيشته وموضة النساء حول عام 1870) أو (المأكولات التي كان الموسيقار روسيني يحبها) أو (دور الكلاب المدللة في حياة شهيرات العشيقات) وما إلى ذلك”.
كما يصف الطريقة التي يُختار بها المتحدثون للرأي العام، “في هذه الأحاديث الصحفية كان كيميائيون مشهورون أو عازفو بيانو مشهورون على سبيل المثال يُسألون عن السياسة وكان ممثلون محبوبون وراقصون ورياضيون وطيارون بل وشعراء يُسألون عن فوائد ومضار العزوبة أو عن ظنهم في أسباب الأزمات المالية وهكذا. كان المقصود هو إيراد اسم مشهور مع موضوع يهم الناس في ذلك الوقت”.
أما عن علاقة الجمهور بالواقع، فيوضح هذه العلاقة من خلال لعبة الكلمات المتقاطعة، فكان “آلاف وآلاف من الناس في ذلك العصر يجلسون وقد فرغوا من عملهم الشاق أو وهم يعيشون عيشة عسيرة، يجلسون في ساعات فراغهم منكبين على مربعات وصلبان ذات حروف، ليملؤوا الفراغ بحسب قواعد خاصة للعبة”.
و”لم يكن هؤلاء الناس بألعاب الألغاز الصبيانية التي يلعبونا وبمقالاتهم التثقيفية التي يلتهمونها، أطفالاً أبرياءً لا هم لهم إلا اللعب والعبث، وإنما كانوا يجلسون خائفين وسط غليانات سياسية واقتصادية وأخلاقية وزلازل، وكانوا يشعلون نار عدد من الحروب الفظيعة والحروب الأهلية المرعبة، ولم تكن ألعابهم الصبيانية مجرد عبث صبياني لطيف لا معنى له، بل كانت استجابة لحاجة عميقة إلى قفل العينين والهرب من المشاكل المستعصية وتوقعات الفناء الرهيبة إلى عالم خيالي يقل به الأذى ما أمكن ذلك”.
عصر السوشيال ميديا
إذا ما قارنا الوصف المقتضب الذي يقدم في بداية الرواية لعصر صحافة التسلية، بعصرنا الحالي عموماً، والصحافة المعاصرة خصوصاً، سنجد الكثير من التشابهات؛ مقابل تراجع وسائل الإعلام التقليدية القائمة على أصحاب المعرفة والمهنية الواسعة، تظهر كل يوم مئات المواقع الإلكترونية والصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، تقدم معلومات سطحية عن مواضيع شتى بشكلٍ يومي، وهي تعنى بالحصول على التصفح المرتفع أكثر مما تعنى بتقديم المعلومات الهامة، ما يجعل معرفة الجمهور بأي موضوع مقتصرة على الأجزاء المثيرة للاهتمام منها لا أكثر.
بل إن الوضع أكثر مأساوية مما هو عليه في رواية هيسه، فأبناء عصر صحافة التسلية يقرؤون الصحف على الأقل، فيما ينحصر تلقي المحتوى واستخدام شبكة الإنترنت لدى معظمنا في شبكات التواصل الاجتماعي، وكثيرون لا يستخدمون من الإنترنت أكثر من فيسبوك وإنستاغرام وربما يتصفحون بعض المتاجر الإلكترونية والأخبار الرياضية.
كان باستطاعة القدرات الهائلة لشبكة الإنترنت تحقيق فتحٍ تاريخي في توفير العلوم للعامة، لم يحصل مثيل له منذ التخلي عن اللغة اللاتينية في المجتمعات العلمية واختراع الطباعة، لكن بظهور شبكات التواصل الاجتماعي وتركيزها على الإعلانات والأرباح، أخذ المحتوى الذي لا يثير اهتمام عامة البشر بالتراجع، وأصبح مستحيلاً تقريباً بالنسبة لأي مؤسسة أو منصة لا تنشر “مقالات التسلية” أن تحقق أي انتشار، ولا تبدو مسائل إخبارية أساسية مثل الموازنات العامة والضرائب والديون الحكومية والمناهج الدراسية وانعدام العدالة ضمن اهتمامات الناس، بقدر ما هي القضايا المتعلقة بالمشاهير مثلاً أو الأزياء، فيما التغييرات العظمى، التي تحمل تأثيراً مباشراً على ظروفنا الحياتية وأحياناً موتنا أو نجاتنا، تحصل على هامش اهتمامنا.
الشق الآخر من المسألة هو ما يشغل الجزء الأكبر من الرواية، وهو رد فعل النخبة المثقفة على هذه الحقبة، والتي تمثلت في التقوقع والانعزال عن المجتمع ضمن الطائفة الكستالية، والامتناع عن إنشاء الفنون مكتفين بدراسة ما أنشئ بالفعل بها، والتسلي بألعاب تقوم على المعرفة الواسعة بها، واكتفائهم بجذب المتميزين من عامة الناس إليهم.
وبعضهم ينجرف وراء المساهمة في صحافة التسلية، مقدماً مقالات “لا مفر للمرء من اعتبارها من قبيل سخرية المؤلف من نفسه، فإنها إن لم تحمل على هذا المحمل ظلت مبهمة تصعب على الفهم”، أمر يشبه إلى حدٍ كبير الخضوع الذي يغلب على معظم المؤسسات الثقافية، فدور النشر باتت مضطرة لنشر المحتويات السخيفة لنجوم فيسبوك ضماناً للمبيعات، وأصحاب المعرفة العميقة بمجالات معينة، ينجرون وراء إنشاء قنوات تواصل على شبكات التواصل الاجتماعي، تخضع لمعايير الاستسهال في صناعة المحتوى.
في النهاية إليكم أحد القصائد الرائعة التي ترد في الفصل الخاص بأشعار يوزف كنشت:
تلاق
الثابتون أبداً والساذجون
لا يحتملون بالطبع شكّنا.
ويشرحون لنا ببساطة أن العالم مسطح
وأن أسطورة الأعماق هراء.
لأنه لو كانت هناك فعلاً أبعاد أخرى
غير البعدين الطيبين المألوفين للناس منذ القدم،
فكيف يمكن أن يعيش إنسان آمناً،
وكيف يعيش إنسان بلا هم؟
فكيما نحقق سلاماً.
دعونا نحذف بعداً.
فإذا كان الثابتون مخلصين حقاً.
وكان النظر إلى الأعماق خطيراً إلى هذا الحد،
فإن البعد الثالث أمر يمكن صرف النظر عنه.