كان فادي من أصدقائنا المفلسين دائماً، دائماً كان يتحجج بأنه لا يملك “فراطة” كي نعطيه أجرة الباص إلى منزله، كنا نعرف أنه لا يملك الكثير من المال، ودائماً نحاول أن نذهب إلى أماكن رخيصة بوجوده كي لا نكلفه الكثير وكي لا يتوقف عن الخروج معنا.
إلى أن أتت عدة أسابيع لم نعد سمع عنه شيئاً، لم نعد نعرف أين هو، وفي أحد الأيام اتصل بي، سألني متى سنخرج كي يخرج معنا، قلتُ له أن يلايقينا اليوم مساءً عند الساعة السادسة في المكان المعتاد، أتى فادي يومها، وملابسه كانت أنيقة بشكل غريب.
“دعونا لا نبقى هنا، لقد مللتُ من الوقوف في الطريق أو الذهاب إلى ذلك المقهى المقزز، ما رأيكم أن نذهب إلى الـ(لونج)؟ المكان هادئ هناك ويعاملونا كالملوك..”
معظمنا لم يعرف هذا المقهى الذي يتكلم عنه، ولكننا شعرنا من الاسم الفرنسي أنه مقهى راقٍ ولا بد، إلى أن تكلم أمير؛ “هل تعني الـ(لونج) الذي في فندق الشام؟”
“نعم… بالضبط، كنتُ هناك يوم أمس، إنه بالفعل مكانٌ رائع”، كان الوضع معقداً، هل يمكن أنه لا يعلم كم أسعار المشروبات هناك؟ وحتى لو كان يعلم، فبكل الأحوال نحن لا نستطيع تحمل تكلفة مكان كهذا.
بالفعل ذهبنا يومها، ورفض فادي أن ندفع ثمن ما شربنا، دفع عن الجميع وترك بقشيشاً للفتاة التي تستقبل الداخلين، وكان واضحاً من طريقة حديثه معها أنها تعرفه جيداً، حين خرجنا طلب تاكسي وصعد به، طلب مني الذهاب معه فأنا على طريقه.
لم أصدق ما أرى، منزله يبعد عن مدينة دمشق أكثر من 20 كيلومتراً، هل يعلم كم سيكلفه هذا التاكسي؟ ولكني لم آبه كثيراً، فقد أوضح في الـ(لونج) أنه يملك الكثير من المال، على الطريق كنا صامتين، وأنا خصوصاً بفعل الصدمة من الحال الجيدة التي انتقل إليها فادي، لم أعد أتمالك نفسي، فضولي المعتاد بدأ يأكلني..
“لا أريد أن أبدو متهكماً أو حاسداً، ولكن من أين لكَ كل هذه النقود؟”
لم يبدو منزعجاً أو محرجاً من سؤالي هذا، بل وشعرتُ به قد سعد بسؤالي. بل وكان جوابه أغرب، جوابه الذي كان عملياً سؤالاً؛ “هل ترغب بعملٍ يدر عليكَ عشرة آلاف ليرة (210$) في اليوم؟”.
صدمني بسؤاله هذا، كنتُ بالفعل للتو قد تخرجتُ من الجامعة ومستعدٌ للقبول بأي عمل مهما كان شاقاً فقط لأتوقف من أخذ النقود من أهلي وأخي، ولكن المبلغ اليومي بدا كبيراً، كبيراً جداً، راودتني شكوكٌ بأن يكون عملاً غير قانوني؛ تبييض أموال، تجارة مخدرات، إدارة أعمال دعارة، أو حتى عمل سياسي غير مشرع له. كل الاحتمالات الممكنة دارت في رأسي في تلك اللحظات القليلة قبل أن أعطيه جوابي من باب الفضول لمعرفة المزيد؛ “نعم.. الراتب يبدو مغرياً”.
ابتسم وكأنه كان متأكداً من أن هذا سيكون جوابي، بقي صامتاً، حين وصلنا إلى المكان الذي علي أن أترجل من التاكسي فيه قال لي دون أن ينظر إليّ، كأحد أولئك الآباء في فيلم “العراب”؛ “غداً لاقني عند الساعة السادسة مساءً في الغساني، هناك سنذهب سوياً إلى صاحب العمل ليشرح لك تفاصيله..”
في اليوم التالي التقيتُ وبه ,انا كلي حيرة، لم أستطع أن أفكر في أي نوع من العمل قد يكون هذا، فكرت في كل الأمور الخطيرة في العالم، وكلها لم تكن قادرة على جني عشرة آلاف في يومٍ واحد، على الأقل ليس إن كان العمل لا يمتد لأربع وعشرين ساعة.
ركب تاكسي، لم يكن يفعل ذلك بتلك الكثافة مسبقاً، أياً منا لم يكن يركب سيارات الاجرة بتلك الكثافة. وصلنا إلى منطقة الطلياني، وأخذنا نسير بين الجادات التي هناك، كان مجرد التفكير بأسعار المنازل هناك يسبب لي صداعاً حاداً، ولكن من يهتم؟ إن كان هذا العمل يدر علي المال الذي يتكلم عنه بالفعل فسأستطيع أن أسكن هنا بظرف ثلاث سنوات أو أقل ربما.
دخلنا بناءً، وصعدنا طابقين، ثم دخلنا منزلاً حوّل إلى مكتب، كما هو الحال في الكثير من المناطق القريبة من مركز المدينة، حين دخلنا من الباب أثارت فضولي خزنة كبيرة، لم تكن بالفعل خزنة، كان باباً حديدياً لغرفة ما في المنزل، كان غريباً وجود بابٍ مصفح بهذا الوضوح عند المدخل، ولكن كما اعتدت أن أفكر في تلك الدقائق القليلة: من يهتم؟
نقر بشكل مؤدب على بابٍ خشبي كبير، ومن ثم دخلنا، كان في استقبالنا رجلٌ صغيرٌ سناً، لا يكاد يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، وأنيق بصورة عجيبة.
“قال لي فادي أنك مهتم بالعمل معنا؟ هل ذلك صحيح؟”
“نعم.. أنا لا أعمل شيئاً حالياً ولا بأس بعمل بدوام جزئي يساعدني على تحمل مصاريفي بدلاً من أهلي”
“حسناً.. سأشرح لك القليل عن العمل، إن أعجبتك ظروفه وشروطه بإمكانك البدء بالعمل من الغد، وإن لم تعجبك سنكون كسبنا رؤيتك وتشرفنا بمعرفتك.. بالمناسبة أنا اسمي توفيق، توفيق فستق”
ماذا؟ عائلة فستق حقيقية؟ كنا نستخدم هذا الاسم للاستهزاء بمن يتفاخرون بنسبهم كأنهم في عصر الجاهلية، ولكنه حقيقي. يا إلهي، كم من المفاجآت سيحمل هذا النهار؟
“موافق.. كلي آذانٌ صاغية”
“عملك سيكون بدنياً بحتاً، وسهلاً لا يحتاج لأي خبرة أو أي إبداع، ستدخل إلى مكان عملك وتقوم بالأمر الذي يطلب منك لمدة ساعتين، وبإمكانك الاستراحة خلال هاتين الساعتين لمدة خمس عشرة دقيقة..”
خمس عشرة دقيقة من أصل ساعتين؟ لماذا كل هذا الدلال؟
“وبعد خروجك سيكون بإمكانك الذهاب إلى الصراف الآلي لتتأكد من أنه تم تحويل أجرك اليومي إلى حسابك… سيكون بإمكانك أن تحصل على إجازة مدتها ثلاثة أيام كل شهر، وبإمكانك أن تراكم هذه الإجازات، والإجازة مدفوعة طبعاً، ما رأيك بالعمل حتى الآن؟”
بدأ الشك يراودني بشأن الأجر، قد لا يكن بالفعل كبيراً كما قال لي فادي.. لا ريب من أن أسأل عن هذا الأجر كم يبلغ، فذلك عمل والخجل فيه لا يجوز.
“هل يمكنني أن أسأل عن الأجر؟ فالرقم الذي ذكره لي فادي بدا لي كبيراً نوعاً ما..”
“المبلغ اليومي هو 11000 ليرة سورية، ولكن يحذف منها 770 ل.س لدفع رسوم التأمينات الإجتماعية. أي أن المبلغ الذي يصلك يومياً وفي إجازاتك المدفوعة هو 10230 ل.س، لكن يومي الجمعة والسبت عطلة ولا تحصل على أجرٍ فيها”
من يهتم بالجمعة والسبت اللعينين؟ موافق موافق… كل ما في موافق على هذا
“ولكن هناك أمر عليّ ان أحذرك منه من الآن.. طبيعة العمل غريبة نوعاً ما، ولا يمكننا أن نشرح لك الهدف من العمل الذي تقوم به، سيكون عليك عدم السؤال عن طبيعة العمل، وبإمكاني أن أطمئنكَ إلى أمر؛ عملنا قانوني 100%، ليس عليك أن تخاف منه، ولكن لا بد أن أحذرك من أن محاولتك لمعرفة الهدف من عملك ستكلفك عملك ودون منحك توصية جيدة”
“حسناً كل شيءٍ يبدو جيداً حتى الآن… ولكن ما العمل الذي سأقوم به بالضبط؟”
“لن أشرح لك الآن… حين تخرج أعطِ عنوانك للسكرتير والوقت الذي يريحك، غداً سيكون في هذا الوقت أمام منزلك بسيارة الشركة ليوصلك إلى هنا، هذا نسميه دلال اليوم الأول، إن لم تكن قد قررت القيام بهذا العمل كل ما عليك أن تفعله هو ألا تصعد إلى السيارة..”
ياللهول… الأمر مثير وممتع في الوقت نفسه، نعم سأصعد سأصعد سأصعد، كل ما في جسدي سيصعد.
في اليوم التالي كانت سيارة “Honda – Accord” في انتظاري في الوقت الذي ذكرته، كانت الساعة الثامنة صباحاً، فتحت الباب الأمامي لأصعد ولكن وجدتُ شخصاً جالساً بالقرب من السائق، لم آبه، صعدتُ في الخلف، وكنتُ متوتراً جداً، توتر اليوم الأول في العمل الذي مازال يلاحقني حتى اليوم.
التفت الشخص الجالس بقرب السائق إليّ وقدمَ لي بطاقة، كانت بطاقة مصرفية؛ ماستر كارد. بهذه السرعة؟ أهم على عجلة من أمرهم لتقديم النقود إليّ؟
“هذه البطاقة ستساعدك على الولوج إلى حسابك المصرفي، وهذه الورقة فيها الرقم السري للبطاقة، عندما تقوم بترك بصمة الخروج من العمل سيحوّل أجرك اليومي أتوماتيكياً إلى حسابك..”
“هناك رقمٌ آخر بقرب الرقم السري للبطاقة.. ماهو؟”
“هذا رقمٌ سري لشيءٍ آخر قد تحتاجه قريباً..”
أعجبتني تلك الأجوبة الغامضة التي يستمرون بتقديمها لي.
وصلنا إلى نفس المكان الذي كنتُ فيه في الأمس، صعدتُ أمامهم إلى المكتب- المنزل، حين دخلنا، فتح ليَ الرجل الذي كان بقرب السائق باب غرفة بقرب الخزنة التي لفتت نظري يوم أمس.. كان فادي هناك أيضاً، قالوا لي أنه سيشرح لي طبيعة عملي.
طلب مني أولاً أن أبصم على الجهاز المعلق على أحد جدران الغرفة، ومن ثم طلب مني أن أجلس على كرسي دوار، ثم قام بجر الكرسي إلى قرب الحائط، وكان هناك عصا أو مقبضٌ طويل خارجٌ بزاوية قائمة من الحائط، وشرح لي عملي…
تباً لهذا..! هل يهزؤون بي؟ سأتقاضى عشرة آلاف ليرة في اليوم مقابل تحريك هذا المقبض السخيف إلى الأعلى والأسفل؟ هل أنا متأكد من أن العمل قانوني؟ إن لم يكن قانونياً فما هو عمل هذا المقبض؟ مطحنة للمخدرات؟ آلة لصناعة لفائف الحشيش؟ شعرتُ أنني على وشك أن أصاب بالدوار من صدمة الموقف.
فادي أكد لي أن الأمر سيكون مملاً في البداية ولكن مع الوقت النقود ستقضي على الملل، بإمكاني أن أشغل أغانِ وأنا أعمل، أجري مكالمات، أدخن؛ أي شيءٍ يساعدني على ألا أشعر بالملل أثناءَ أدائي لعملي.
ولكن حذرني فادي من أن أخبر أي أحدٍ بطبيعة العمل مالم تكن لديه النية في العمل معنا، لم أبالِ وبدأتُ بتحريكه، بطيئاً سريعاً، بانتظام بعشوائية؛ لا يهم، المهم أن يبقى هذا المقبض اللعين يتحرك.
ساعتان مرتا بسرعة بفضل الأفكار التي تتراطم في رأسي. والاستراحة – الأمر الذي لم يشكل صدمة كبيرة بالنسبة لي – حسبت من الساعتين، أي أن الوقت الذي كان علي أن أعمله هو فقط ساعة وخمس وأربعون دقيقة.
انتهى وقتُ العمل، رائع! لديّ بعض الأوراق لأسيرها في الجامعة من أجل الحصول على وثيقة تخرجي، اتجهتُ نحو الجامعة وذهبتُ من ثم إلى مركز التدريب الجامعي، قالوا لي أن أعود بعد ساعتين لأحصل على براءة الذمة التي أحتاجها لأتمم أوراقي.
قررتُ أن أذهب إلى كلية الاقتصاد كي أرى أصدقائي هناك، في الطريق رأيتُ صرافاً آلياً يصلح لبطاقات الـ”ماستر كارد”، اتجهتُ نحوه والشك ظاهرٌ على وجهي، أدخلتُ البطاقة وأدخلت الرقم السري الخاص بها، طلبتُ أن أسحب خمسة آلاف ليرة سورية.
أعطاني الصراف الآلي المبلغ الذي طلبته، والإيصال الذي خرج منه أخبرني أن الباقي في رصيدي هو 5,230 ل.س، بالضبط الرقم الذي وعدوني به… تباً لشكوكي، وتباً للجدار اللعين ومقبضه التافه، هذه نقود، نقود حقيقية خارجة من صراف آلي.
الأسابيع القليلة الأولى مرت بلا ملل، بالفعل كان فادي محقاً، النقود مسحت الملل بل وسحقت عائلته كلها، لم أهتم بالملل ولا بالجدار وما الذي موجود خلف الجدار؛ حرّك أمضِ ساعتين ومن ثم احصل على عشرة آلاف ليرة، ذلك هو النعيم، ذلك بالضبط هو… النعيم.
توالت الأمور الجيدة، قلة الأموال قبلاً علمتني التعامل مع الناس بشكل جيد كي أتمكن عن عدم قدرتي بتقديم المال، أما الآن وأنا أملك تلك القدرة العجائبية وبقربها المال أيضاً… رحبوا بالرجل الخارق، لا شيء قادرٌ على إيقافي، ولا أي شيءٍ لعين.
هاتفي الجديد كلفني ثلاثة أيام عملٍ، ساعتين كل يوم، عفواً أقل من ذلك، كلفني بالضبط خمس ساعاتٍ وخمس عشرة دقيقة من العمل، حاسوبي النقال كلفني أربعة أيام، الكاميرا يومٌ واحد، مجموعة الصوت ثلاثة أيام، الـI-Pod ثلاثة أيام أخرى، كل تلك المشتريات لم تكلفني شهراً من العمل.
ماذا بعد؟ الفتيات كن أمراً سهلاً، حين تجلس في مكانٍ يكلفك أكثر من الف ليرة لمشروب واحد صدقوني… هن سيقمن بتصيدك، لا تقلق بشأن أي أمر، لستَ مضطراً لتقديم أي وعودٍ، لتقديم أي شيءٍ، لديك المال وهو ينفق عليهن بكل حال، ما المهم في الوعود؟
الأيام الثلاث التي كانت تحق لي كإجازة كنتُ غالباً أطلبها قبل يومي جمعة وسبت لتصبح خمسة أيام من العطلة وأقضيها في بيروت أو عمان، في أحد المرات كانت قد تراكمت الأموال بسبب إهمالي، وقررتُ أن انفقها في رحلة لطيفة، ذهبتُ حينها إلى أثينا، هناك حظيتُ ببعض الجنس الرائع، جنسٌ أورثوذكسي من النوع الممتاز، مرة أخرى ذهبتُ إلى إيطاليا، وما من داعي لأصف ما الذي حصل هناك، دعوني فقط أقول أن الإيطاليات بذلن الجهد الأفضل ليحصلن على لقب الفتيات الأفضل في العالم.
مرت سنة على تلك الحال، وكنا أنا وفادي نبتعد عن بعضنا كأصدقاءٍ أكثر فأكثر، كل منا مشغولٌ بصرف أمواله، حوالي الثلاثة ملايين في العام تحتاج للكثير من الوقت لصرفها، استأجرت منزلاً في شارع بغداد، الامر الذي جعل علاقتي تصبح أفضل بكثير من الفتيات، وحين تقدم لفتاة فودكا أتت منذ أيام فقط من موسكو، أو نبيذاً أيطالياً أمضى الكثير من الوقت في أحد الأقبية سيكون صعباً عليها أن تقول لا… في بعض الحالات كان يصعب عليهن أن يقلن أي شيءٍ، كن ينهمكن في إمتاعي، لم يكن إمتاعي ما يفكرن به ولكنهن كن سهلات القيادة في تلك الدرجات من الثمالة.
في أحد الأيام، ذهبتُ إلى العمل فلاحظتُ أن الجميع صامتين، كان الشابان اللذان يقومان بذات العمل لا ينظران إلينا، وفادي كان مرتبكاً ويتصبب عرقاً، سألته بصوتٍ منخفض “ما الأمر؟ لماذا هذا التوتر المنتشر في المكان؟”.
“رامي..”
“ما به؟”
“لقد فعلها”
“ما هي التي فعلها؟”
“حاول أن يعرف..”
“وما الذي حصل؟ هل عرفَ؟”
“ليس مهماً إن كان قد عرفَ.. المهم أن السيد توفيق، مزق بطاقته المصرفية أمامه وطلب منه المغادرة وعدم العودة أبداً، ولم يسمح له بالاتصال بأي منا”
“كل هذا فقط لأنه حاول أن يعرف؟”
“هل لنا أن نتحدث في الأمر لاحقاً، لا أريد لأحدٍ أن يشك بأنني أفكر في أن أفعل الأمر نفسه”
لم أجادله بالموضوع كثيراً، أتممت تحريكي للمقبض اللطيف، وذهبتُ إلى دجاجتي لأتأكد من أنها باضت البيضة الذهبية التي أنا بانتظارها.
كنت الأقل مبالاة بين الآخرين بما حصل، ولكن لسببٍ لم أفهمه كانوا يزدرون من قلة اهتمامي، باتت نظراتهم مزعجة لي، وحاولت قدر المستطاع ألا تتسبب بمشاكل لي في هذا العمل، فهذا العمل كان بالنسبة لي بمثابة الفرصة الذهبية التي تأتي مرة واحدة في العمر، بل قل في الألفية كلها.
وفي أحد الأيام، وكان حينها قد مر حوالي العام على بدئي بالعمل وكنتُ قد اشتريتُ سيارتي الخاصة من نوع Hyundai – Veracruz، طلب مني فادي توصيلة، فقد كانت منازلنا قريبة، وبحكم قربها أساساً دخلتُ في هذا العمل الممتاز، بعد أن ابتعدنا قليلاً عن المكتب طلب مني رفع صوت المذياع قليلاً، وبعد أن فعلتُ بدأ يهمس في أذني، وأوّل ما قاله لي “هناك أجهزة تنصتٍ في السيارة هذه الطريقة الوحيدة كي لا يسمعونا، تابع القيادة إلى قاسيون، وهناك سننزل من السيارة وسيكون عليّ أن أكلمك..”
اتبعت تعليماته، واتجهتُ إلى قاسيون وأخنا بالصراخ على الطريق كي نبدو مجانين ويكون رفع صوت المذياع مبرراً. حين وصلنا هناك قال “دعنا ننزل هنا لندخن سيجارة، لا شيءَ كتدخين سيجارة وأنت تراقب دمشق بكاملها”
بالفعل نزلنا ولسخرية القدر أشعل كل منا سيجارة بالفعل، ابتعدنا عن السيارة التي باتت تبدو لي مريبة من حينها، وبدأ بالكلام..
“لا بد وأنك تذكر ما الذي حصل لرامي، علي أن أكلمك بهذا الأمر..”
“لماذا تحملون الأمر أكثر من اللازم، منذ بداية العمل أخبرنا مسيو توفيق أن علينا ألا نحاول معرفة طبيعة العمل الذي نقوم به، وكان واضحاً في أن العاقبة ستكون الطرد من العمل… ما الأمر الذي يبدو غريباً لكم؟”
“الأمر الذي يبدو لنا غريباً هو أن السيد توفيق حذره من التواصل معنا، ولكن السؤال هو كيف استطاع أن يجبره على ذلك؟”
بالفعل لم يكن لدي جوابٌ على هذا السؤال، أنا شخصياً خطر لي قبلاً، ولكن توجهي بالفطرة إلى عدم طرح الأسئلة منذ بدأتُ بهذا العمل أخرني عن البحث عن جوابٍ له، كيف يمكن لهم أن يمنعوني أنا مثلاً إن طردت أو تركتُ العمل من الحديث إليهم؟ ما هي السلطة القانونية أو غير القانونية حتى التي يملكونها ضدي حتى يتمكنوا من التحكم بأي من تصرفاتي حين لا تعود هناك أموال يلوحون بها في وجهي كالجزرة في وجه.. الحصان؟
بعد قليلٍ من الصمت قلتُ له معلناً استسلامي لإغوائه “حسناً أستسلم… كيف استطاع ذلك؟”
“هذا ما نحاول أن نعلمه، منذ طرد رامي ونحن نتناقش في الموضوع، وجدنا اجهزة تنصتٍ في سياراتنا وفي المكتب وحتى البعض وجدوا أجهزة تنصتٍ في غرفهم… لكن بالطبع لم نقم بإزالتها، وإنما تأقلمنا معها فقط، هنا في قاسيون هو المكان الوحيد الذي لا يتمكنون من متابعة الإرسال منه”.
بدأت تنتابني مشاعر سيئة حول الأمر، ومن ثم طرحتُ السؤال الذي ابتعلته في معدتي لسنة كاملة..”ترى ما الذي عرفه؟ وكيف عرفه؟ ماذا يوجد وراء الجدار؟”
صمتَ فادي.. وأنا بدأت تنتابني المزيد من الشكوك، لم أستطع التفكير في أي شيءٍ خطير يدار عن طريق مقبضٍ سخيف يصعد وينزل، ولا أي شيء، شعرتُ بدماغي يكاد ينفجر..
“ألم تتواصلوا معه؟ ألم يلمح إلى ما رآه؟ لا بد أنه اتصل بكَ مرة أو مرتين..”
“لا لم يفعل أي من تلك الأمور التي ذكرتها، منذ خرج من باب المكتب لم يتصل بأي منا، وحين حاولنا الاتصال به كان يرفض اتصالاتنا.. هذا الأمر الذي حيرنا، كيف تمكنوا من جعله يلتزم بشدة؟”
“انسَ هذا الهراء السخيف… “جعلوه يلتزم” خراء كله خراء، هل يملكون شركة الاتصالات حتى يتمكنوا من معرفة أننا اتصلنا به؟ سأتصل به الآن..”
عدتُ إلى المنزل فضولي يتآكلني، كانت ليلة أطول من أمضيها، كانت ساعات أصعب من أن أعيشها داخل النوم، على شرفة منزلي أدخن عشرات السجائر، أشرب كؤوساً من الفودكا بلا نهاية، ولكن لا فائدة، عقلي وصل إلى اقصى درجات الاستنفار وما من شيء قادر على أن يلهيه، ستبقى حالتي على هذه الشاكلة ما لم أعلم ما الذي يوجد خلف الجدار، لا بد أن أعلم، تباً للنقود للسيارات للفتيات لكل شيء أحصل عليه من هذا العمل، من هذا التلاعب بعقولنا، لا أريدها لا أريدها، تباً لها كلها لا أريدها.
أصبحت الساعة التاسعة صباحاً وأنا مازلتُ متسمراً على الشرفة، لن أنتظر حتى الساعة الثانية عشرة – وقتي المعتاد في الذهاب إلى العمل – حتى أذهب وأقتل فضولي، سأذهب الآن، الحقيقة لا تنتظر حتى تظهر، نحن من ينتظر حتى يعرفها.
ارتديت أسوأ ملابسي وركبتُ في السيارة وانطلقت كالمجنون نحو المكتب، وصلتُ إليه، وأنا قد بدأ يتسرب بعض التردد إلى قلبي، أخذتُ أفكر، بالسيارة بوقت الفراغ مع الكثير من النقود لتملأه، ولكن كان الفضول، الفضول الذي يقف وجودي عنده يأكلني، وفكرت في أنني إن حاولت ُ أن أعرف بسرعة قد لا يعلمون أنني حاولتُ أن أعرف، وأستمر في العمل بسلام.
من يهتم؟
صعدتُ كالمجنون إلى فوق، وقفتُ أمام باب الخزنة الذي يفصلني عن رؤية ما الذي كنتُ أحركه لمدة عام، وقفتُ أمامه، مددتُ يدي إليه، ولكن تذكرتُ أنه باب حزنة، فتحه لنيكون بهذه السهولة.
مر من قربي المستخدم الذي رآني أنظر إلى الباب، سألني وكأنه متأكد من الجواب “هل تريد أن تفتحه؟”
“نعم.. هل لكَ أن تفتحه ليَ؟”
“لستَ بحاجة ليَ… منذ أتيتَ هنا وأنت قادرٌ على فتحه”
ماذا؟ كان أمامي طول الوقت وأنا قادرٌ على فتحه؟ طوال هذا الوقت كانت محاولة المعرفة بهذه السهولة؟ كيف؟ نعم.. تذكرتْ
أخرجت محفظتي، وعليها الورقة التي أعطوني إياها وعليها الرقم السري لبطاقتي المصرفية وبقربه رقم آخر قالوا لي أن أحتفظ به، كل ما علي فعله هو إدخاله على لوحة المفاتيح الخاصة بباب الخزانة.
بوووم…! فتح الباب، كل ما عليّ فعله أن أشرعه وأدخل، بهذه السهولة، سأعرف الآن ما هو العمل الذي كان يجلب لي عشرة آلاف ليرة كل يوم، الآن سأعرف بكل بساطة، وربما أنشئ عملاً مشابهاً يوماً ما وأربح أكثر بكثير بإعطاء العمال أقل من هذا الرقم الخيالي.
دخلتُ إليها بهدوءٍ، كانت مظلمة، هادئة، صوتُ المقابض التي تتحرك إلى أعلى وأسفل لا أثر له هنا، كان هناك ضوءٌ خافت على الجدار الذي بقرب الباب، كان زراً يشغل ضوءاً، أشعلتُ الضوء، وكانت..
كانت الغرفة فارغة، مجرد جدرانٌ تافهة، لم نكن نحرك شيئاً، ولا أي شيء.
“هل ارتحتَ الآن؟”
كانت السيد توفيق يقف ورائي ويراقبني بهدوءٍ، نظر إليّ وابتسامة اخرة ترتسم على وجهه الشاحب.
“نعم.. ارتحتُ كثيراً، ولكن لم أفهم لماذا”
“لا داعي لأن تفهم..”
حاولتُ أن أحول الموقف لصالحي، أن أظهر له أنني في موقف قوة، أنني أملك ورقة رايحة رغم تلك الخسارة الشائنة التي تعرضتُ لها.
“ولكن.. هل تظن أنك ستستطيع حقاً أن تمنعني من الاتصال بالباقي وإخبارهم؟”
“من قال لكَ أني سأفعل شيئاً كهذا؟ اتصل بهم إن شئتَ وأخبرهم، لا مانع لديّ، حتى أنني لن أطردهم من العمل ما داموا ينجحون في إخفاء الأمر عني..”
خرجت بعد أن فعل ذات الشيء الذي فعله قبلاً، قص بطاقتي المصرفية أمامي، ولكنه أعطاني أجرة ذلك اليوم نقداً…
خرجت بالسيارة وذهبت أبعد ما أمكنني الوصول، كنتُ على طريق سف دولي لا أعلم ما هو، أفكر في الأمر الغبي الذي قمتُ به، وأنا مازلتُ لا أفهم الجزء المتعلق بكيفية قدرة السيد توفيق على منع رامي من الاتصال بنا إن كان حدثه بنفس ما حدثني به اليوم… ولم أستغرق الكثير من الوقت لأعرف الجواب.
رن هاتفي، كان المتصل هو فادي، بعد رنينين أو ثلاثة قمتُ برفض اتصاله… فهم – صدقوني – لا يريدون أن يعلموا ما الموجود خلف هذا الجدار.