وشاح

كنتُ في أحد الأيام أسير في السوق، وكنتُ هناك أمرّ فقط، فأنا لم أكن يوماً من هواة التسوق، وحين أصل إلى الدرجة القصوى من الحاجة إلى الملابس أذهبُ وأشترِ أول بنطال يناسبُ “كرشي” وأعود.

ولكن في ذلك اليوم كان السوق – على الرغم من كونه مملاً كالمعتاد – يحمل لي أموراً لم أعلم أنها قد تُحمل إلي من السوق، مررتُ بقرب محل للملابس الذكورية، لفتني بنطالٌ داخلي “بوكسر” عليه شخصيتي المفضلة… هومر سيمبسون.

لم أبالِ كثيراً وتابعتُ مسيري، ولكن فجأة رأيتُ شيئاً آخراً على واجهة المتجر نفسه أسر قلبي، وشاحٌ معلق على رقبة تمثال عرض (ماليكان)، وشاحٌ عادي، ليس من اللون الذي أرغبُ به، أبيض وأصفر.. ليست ألواني المفضلة، ولكن وجوده في مكانه الصحيح بهذه الدرجة من الدقة هو ما أرعبني، ما جعلني أشعر أن الوشاح ليس مجرد قماش جيد أو سيئ.

كان علي أن أوصل شيئاً لصديقي، منزله يبعد عن هذا المتجر مئة مترٍ تقريباً، ولكن الوشاح الرائع في مكانه الرائع أسر قلبي، ولم أعُد قادراً على الحراك من أمام المتجر، دخلتُ وسألتُ البائع عن سعره، لم يكن رخيصاً ولكن لم يكن غالياً قياساً لما فعله بي، وأنا لم يسبق أن فعل بي ذلك وشاح.

2000 ليرة سورية (43 دولاراً)، سأدفعها بقلبٍ مرتاح ولن أهتم بالكتب التي سيكون علي تأجيل شرائها من جديد، أخرجتُ محفظتي من جيبي.. تباً! أنا لا أحمل هذا المبلغ نقداً، والمحل لا يقبل الدفع ببطاقة المصرف الإلكترونية، سيكون عليّ الذهاب إلى الصراف الآلي وسحب بعض النقود لأعودَ وأشتريَه.

الصراف الآلي يقع بعد منزل صديقي، الأمر بسيط إذاً، كل ما عليّ فعله هو الذهاب إلى منزل صديقي وإعطاؤه كتابه، وثم إلى الصراف الآلي وأسحب منه ألفي ليرة سورية والرجوع إلى المتجر وشراء الوشاح، طلبتُ من البائع أن يحجز لي الوشاح ريثما أعود ولكنه اعتذر مني، وقال أن الوشاح يخاف أن يكتفي الناس بتجربته وعدم شرائه… قال أن الوشاح لا ينتظر.

لا بأس… مشواري لن يستغرق أكثر من نصف ساعة، ومن المستحيل أن يشتريه أحدٌ في النصف ساعة هذه، فهو لسواي مجرد وشاح، وأنا وحدي أعرف قيمة هذا الوشاح الأبيض والأصفر، وأعلم كم هو مناسبٌ لعالمي.

ذهبتُ مسرعاً إلى منزل صديقي وأعطيته الكتاب على عجل، وذهبتُ جرياً إلى الصراف الآلي، ولم أكن أفهم لماذا عليّ أن أجري من أجل وشاح، ولكنه كان يستحوذ على تفكيري، وأنا أفكر طوال الوقت في أنه لا ينتظر، لماذا لا تنتظر الأوشحة؟ لماذا تمل من البقاء في المتاجر؟ ألن تمكث في خزانة في النهاية على كل الأحوال؟ تباً… “الصراف خارج الخدمة”، أن يأخذ البشر إجازة يوم الجمعة أمرٌ مفهوم، ولكن أن تأخذ هذه الإجازة الآلات أيضاً لا يمكنني أن أفهم هذا أبداً.

عليّ الآن البحث عن صراف آخر داخل الخدمة، لن آبه بأن يكون لنفس المصرف الذي أودع نقودي فيه، فليأخذوا العمولة التي يريدون فأنا علي شراء الوشاح، وصلتُ إلى صراف لمصرف آخر، سحبتُ ثلاثة آلاف تحسباً، فكل شيءٍ يرتفع سعره بسرعة جنونية في هذا البلد.. حتى الأوشحة.

جريتُ إلى المحل كالمجنون وأنا أفكر في الوشاح، شبه واثقٍ من أني لن أخسره، بحق السماء لا أحد يمكنه أن يرى في وشاحٍ أصفر وأبيض شيئاً مهماً، ولا أحد منهم رأى ما داخله، ما وراء سطوره، اقتربتُ من المحل، وبتُ أشعر بالطريق طويلاً لسببٍ أجهله.

كنتُ أرتطم بالناس وأوقع بعضهم، ازدحام يوم الجمعة التافه بدأ يزعجني، وقررتُ إن أنا استلمتُ وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل سأجبر كل العاملين في سورية على اختيار أيام عطلٍ مختلفة ولن أسمح لهم بأخذ إجازة في نفس اليوم والتسبب بهذا الازدحام السخيف، دعني من الوزارات والحكومات الآن، الوشاح على “الماليكان” يجب أن يعود معي إلى المنزل الآن.

وصلتُ إلى المحل والتقطتُ أنفاسي، نظرتُ إلى الواجهة ولم يكن الوشاح هناك، ما الذي حصل بحق الجحيم؟ وشاح سخيف، كنتُ أعتقد أن أهل سورية يفضلون الألوان الداكنة، ما الذي يحصل، دخلتُ إلى المحل كالمجنون وارتطمتُ بزبونة وجعلتها توقع نقودها التي كانت تضعها في محفظتها، لملمتُ لها النقود واعتذرتُ منها بهدوءٍ وأنفاسٍ متقطعة، وخرجتْ، سألتُ البائع أين الوشاح الذي كان على الواجهة، قال لي أنه قد بيعَ.

“ألا توجد قطعة أخرى منه؟”

“أعتذر ولكنها كانت قطعة واحدة، لم يصنعوا سوى قطعة واحدة من هذا الوشاح..”

كدتُ أبكي، زممتُ شفتيّ معبراً عن انزعاجي لنفسي، تباً للأوشحة والساعة التي خلق الرب فيها الأوشحة، سألته من هو الذي اشترى الوشاح وإن كان قد يعرف رقم هاتفه، قد أقنعه ببيعي الوشاح ولو بـ200 ألف ليرة سورية (4300 دولاراً) بدل الألفين…

“هذه السيدة التي ارتطمتَ بها عند دخولك.. هي من اشتراه”

ماذا؟ ولكنه للرجال، كيف لها أن تشتريه، خرجتُ مثل المجنون من المحل، وذهبتُ خلفها، حركتها البطيئة جعلت من السهل اللحاق بها، صرتُ خلفها مباشرة، ولكن لم أعلم ما الذي يمكن أن أفعله، لم يكن بإمكاني سرقته منها، وسأبدو غبياً إن طلبتُ منها أن أشتريه منها فمن الواضح وفقاً للملابس التي ترتديها أنها ليست بحاجة نقودي، إضافة إلى أنني لا أستطيع أن أدفع المئتين ألفٍ التي تبجحت بها منذ قليل، فقد أخبروني أن ثمنه ألفين، ولكن لا بأس بالمحاولة.

اقتربتُ واستوقفتها…

“عفواً مدام..”

“أنا؟”

“نعم أنتِ… كنتُ أود أن أسألك من باب الفضول عن الوشاح الذي اشتريتِهِ للتو”

“نعم ما بهِ؟”

“إنه مصممٌ للرجال.. ما حاجتكِ به؟”

“آه… إنه ليس لي، لقد اشتريته لابني، هو يحب أن أختار أنا له ملابسه”

“لماذا لم يأتي ليشتريه هو؟”

“ليس في دمشق، قمتُ أنا باختيار الوشاح له، وحين يزورنا من اللاذقية سيأخذ الوشاح معه إلى هناك”

كانت نظرة الأم التي في عينيها أقسى من أن أطلب منها بيعي الوشاح، وأساساً الوشاح سيكون سعيداً أكثر هناك..

انتظر.. لقد بدأ حديثك يبدو غير منطقياً، هل تتوقع مني أن أصدق أن كل هذه المشاعر والمغامرات انتابتك بسبب وشاح؟

هل تعتقد حقاً أني أتكلم عن.. وشاح؟

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها

4 أفكار عن “وشاح”

  1. مناف،،
    مجدداً احببت ما قرأت لك، ولا اعتقد انك تتحدث عن الوشاح، فيمكن أن يكون أي شيء و/أو كل شيء. هل تكتب قصص او لك اي شيء نشر؟ احب اسلوبك

  2. 🙂
    أحيانا كل ما نريده باستماتة يختفي
    أحببتها واحببت الصورة
    وانا لي عقدة خاصة مع الاوشحة لطالما كانت بضعا من هوسي
    تدوينة جميلة
    تحياتي لك ::)

التعليقات مغلقة.