الهواء بات ثقيلاً، الوقت يمر ببطءٍ شديد، لا نعرف ما الذي ننتظره، ولا نعرف إن كان هناك ما علينا أن ننتظره بعد، أصواتُ نبضهم تلاحقنا، في كل زاوية من زوايا المكان، صرخاتهم الأخيرة التي أصابنا الصمم مدعياً أثناءها، وتلاحقنا المزيد من الذكريات، المزيد من الألم، المزيد من الحسابات غير المنتهية، القصص المتروكة بلا نهاياتٍ لها، والأماكن التي تحولت لمجرد ذكرى، لمجرد فكرة، لمجرد شعورٍ بنكران الجميل، وتأخرٍ في استغلال مساحات المتعة الأخيرة، حتى باتت تلك المساحات مجردَ غبارٍ – وإن كبر حجم ذراته قليلاً – تدوسه قذارة أحذية يرتديها المزيد من الغبار.
لن ننسى، نقسم أننا لن ننسى، ونقول أننا بحاجة لألا ننسى، ونحنُ بالفعل لن ننسى، ليس فعلاً من أفعال الكرامة، وليس إرادة الحياة واسترداد أرواحهم من بين حناجر قاتليهم، بل هو عجزٌ أبديٌ سكن أجسادنا منذ الشتيمة الأولى، منذ الصفعة الأولى، منذ الحجر الأول والضحية الأولى، هو عجزٌ عن أن ننظر بتسامحٍ، أن يصيب الشلل أيدينا ونحن ننظر مثل القدر في عيون جلاده، هو أمرٌ جاءنا من إله لم نسمع به يوماً، إله ظهر فجأة في أحلام يقظتنا، ولم نقل أن الإله قد زار وجْدَنا، لم نقل أن الألم منذ الآن بات معبد النائم تحت سلالم السيّد، بات دينه الأوحد، ليخبره ألا تصمت؛ فإن الصمتَ هو ما يجعل منكَ عبداً، لا سلاسل جلادك.
لن ننسى، أقسم برائحة الشهيد التي فاحت على أطراف قريتنا، ورائحة النساء اللواتي يبكين على أطلال رجولتنا، أن لن ننسى الذي داس على نقطة من ضوءٍ، كنا نسميها مستقبل، ولن ننسى الذي صرخ، الذي مات، لن ننسى عويلنا الأول، وأن الدمع الذي سال كالدماء لن يُنسى، وارتجافة جفن أمي، ستمسي زلزالاً يهز الأرض من تحت قدمِ من ركلَ الأمل الأخير بوطنٍ يسكن عظام ساقيّ، سوف ينهار التراب تحت وطءءِ أقدامنا، دماؤهم فيها بقايا من أخشاب صليبه، ثقيلة، تتعب التراب، تتعب أعماق التراب، وما بقي فيها من صدى أصواتِ من رحلوا، تعبَ التراب يا بيتي، تعب التراب يا أبتي، تعبت بقايانا التي تركناها تحلم بساعةٍ أفضل، بقايانا التي لم تملك ترف الحلم بشيءٍ يُدعى مستقبل.
الهواء بات ثقيلاً، أثقل من أن تشفى الجراح من تلقاء نفسها، وأثقل من أن نسير بعد اليوم وأعناقنا لها وقاحة النظر إلى الأعلى، الهواء بات ثقيلاً، كثقل رغبتنا بقول الكلمة الأولى في قاموس أحلامنا، وعجزنا عن القول أمام مسارح الأحلام، بات أثقل من أن نستمر بالمسير على خطى من رحلوا، على إخلاء الطريق لرسم خطوطنا الأولى على إسفلت طريقٍ منذ الصرخة الأولى لم يبرد، ونحلم أن الليل لن يأتي، ونقنع أنفسنا أن الليل لم يأتِ، نغمض أعيننا عن الظلمات التي تجتذ صرختنا، ونحلم مغمضي العينين بالضوءِ، بالنور، بصورةٍ نلتقطها قرب الزهور، قرب تربتها التي ملأت كل القبور.