النياندرتال الذي بتُ مثقفاً بخصوصه

neanderthal-615

لا قدرة على القيام بشيء، القدرة من حيث المبدأ النظري موجودة، ولكن لا مكان في الدماغ لتنظيم تلك الأشياء التي لا بد من القيام بها، سبب ذلك ليس وجود ما يشغل تلك المساحة اللازمة، بل توقف الدماغ عن العمل بشكلٍ شبه نهائي، مجرد حركاتٍ وانبطاعاتٍ أوتوماتيكية تسير سلوكي، المجلة لن تنشر نفسها بنفسها، والرواية كذلك، كل ما يقوله الكتاب عن الروايات والقصص التي تكتب نفسها بنفسها هو مجرد هراء، مجرد محاولة لإضفاء صبغة رومانسية على مهنة لا تقل مللاً عن باقي المهن.

ما زلتُ جالساً على السرير، تلك بقعة المرح، لم أنتقل بعد إلى الأريكة حيث بقعة العمل، ليس أنني لا أرغب بالعمل، لا بد من العمل، ولكني لا أرغب بالانتقال إلى هناك، عملية جر الطاولة ونقل ملابسي من الأريكة إلى السرير (ثم إلى الخزانة يوماً ما) تبدو عملية معقدة جداً، وتأجيلها إلى ما بعد السيجارة بلغ حتى الآن ما يقارب الست ساعاتٍ كاملة، أي تقريباً ثمن المدة التي يتوقع أن تبدأ الصواريخ الأمريكية بالتساقط بعدها، علي أن أشكل موقفاً من تلك الصواريخ بالمناسبة، لقد وضعتها على قائمة المهام غير المنجزة، لا أحد يكترث بموقفي أو موقف غيري، ولكن لا بد من أن يكون لي موقف، الأمر يشبه الكتابة، نكتب آلاف الكلمات التي نعلم أنها لن تنشر، أو على الأقل لن تقرأ، ولكن لا بد من كتابتها، لا شيءَ آخر لنفعله.

ألتقط هاتفي، أريد أن أتصل بأحدهم، لا أذكر من، أشعر برغبة عارمة بالاتصال بأحدهم وإخباره المزيد من المعلومات الجديدة التي لديّ عن النياندرتال الذي بتُ مثقفاً بخصوصه بما يكفي لأكف عن تسميته رجل الكهف، وربما سأخبر قليلاً عن هرم خوفو، ولكن لا أحدَ مهتماً على ما يبدو، لا أحد من الأسماء التي أقلبها في هاتفي، أسماء الذين ما زالوا في مناطق تغطية هواتفهم المحمولة أو مناطق الوصول إلى هواتفهم الثابتة لا تتجاوز ربع الأسماء المحفوظة على هاتفي، بدأتُ بمسح الأرقام، ربما يعودون، وربما يستخدمون الأرقام القديمة نفسها، من يهتم لاحتمالٍ بهذه الضآلة؟ فليعودوا في البداية وحينها لكل حادثٍ حديث.

آه.. هذا رقم فتاةٍ قد تكون مهتمةً بمعرفة المزيد عن النياندرتال وهرم خوفو، إنها خريجة كلية الآثار، على الأغلب هي تعرف أكثر مني بكثير، لا بأس بمحاولة، على الأقل ستراودها متعة تصحيح معلوماتي، أو الإضافة إليها، أو ربما هي طالبة بلهاء أخرى تنسى كل ما درسته بعد الامتحان، لا بد من المحاولة…

“الرقم المطلوب غير موضوع في الخدمة بعد”، لقد كان في الخدمة سابقاً، لغوياً لقد اختاروا العبارة الخاطئة للتعبير عن الموضوع، كان عليهم أن يقولوا “الرقم المطلوب لم يعد موضوعاً في الخدمة”، ربما عليّ أن أتصل بخدمة المشتركين كي أصحح لهم ذلك، ربما يستدعون صاحبة الصوت الممل لتعيد قراءة الجملة بالشكل الصحيح، أو ربما هي الأخرى سافرت كالبلهاء خريجة الآثار.

ماذا أيضاً؟ نعم! الأريكة.. عملياً ليست أريكة، على الأقل لا يحمل شكلها الجاذبية التي تحملها كلمة أريكة عادةً، لا تحمل شكل الأرائك التي نراها في المسلسلات الأمريكية والتي يترك فيها البطل معطفه “على الأريكة”، هي أشبه بكرسيٍ كبير، أقل راحة من الكرسي، ولكن فيها ما يسند ظهري، ذلك كافٍ ليمنح مسحة من الجدية على جلستي التي تهدف إلى العمل.

لا قدرة على القيام بشيء، لا رغبة للقيام بشيء، الرغبة هي ببعض الوقت الفارغ، الوقت الفارغ الحقيقي، الذي ليس مؤقتاً بانتظار واجباتٍ سيلزم أداؤها بعد ساعاتٍ قليلة، حيث يمكنني أن أصل أقصى حدود الملذات، أقصى حدود الإهمال دون تفكيرٍ بالعواقب، حيث لا موت، وحيث لا شعور بالذنب يرافق كل ابتسامة… لا قدرة على القيام بشيء، ربما علي أن أكف عن محاولة القيام بشيء، ربما كي أتمكن من القيام بأي شيء علي قبل كل شيء أن أكف عن المحاولة، علي أن أسترخي، وأكف عن المحاولة، أكف عن المحاولة، حتى علي أن أكف عن محاولة الكف عن المحاولة، أكف عن المحاولة، أكف عن المحاولة، تبدو عبارة لطيفة لتتكرر في أغنية ما، بالإنكليزية طبعاً، ويجد فيها بعض المخدرين عبرة حياتهم، أكف عن المحاولة… حسناً، ذلك لن يحصل، سأكف عن المحاولة.

 

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها