ليست مصادفة

ليست مصادفة أن أقابل فتاة تبدو مألوفة جداً بالنسبة لي، ليس الوجه، بل ذاك الشيء الذي يسميه المؤمنون الروح، أعلم متأكداً أنها شعرت بالشيء ذاته، لم تفهم ربما ما هو ذاك الشعور، وليست مصادفة أن أقابلها في ذات الوقت الذي كنتُ أقرأ فيه كتاباً يتحدث عن تلك الفكرة الغريبة المبسطة المدعوة بالتقمص أو تناسخ الأرواح، كنتُ متأكداً أنني أعرفها من حياةٍ أخرى، من بعدٍ آخر، من كونٍ آخر ربما، ليست مصادفة ولا بد أن هناك هدفاً من القدر اللعين كي يضعنا وجهاً لوجه في الوقت نفسه الذي بدأت أصدق أن ذلك ممكن، لا بد لي من أن أحاول البحث أكثر والتعرف عليها أكثر، والتعرف – من خلالها – إلى ذلك الجانب الغامض من الكون أكثر.

ليست مصادفة أن يعود لي ذلك الشعور من جديد، ذلك الشعور الغريب الذي كنتُ أحس به عندما أتنشق عطر حبيبتي القديمة، ذلك العطر الذي لازمني فيما بعد منفصلاً عن ذكرياتي عنها، عن الساعات التي كنتُ أقضيها أتنفس ذلك العطر من عنقها ومن رسائلها المغسولة بذلك العطر الفرنسي من العيار الثقيل، ليست مصادفة أن يعود ذلك الشعور، الذي يشبه انفصال الوجود المادي لجسدي عن الوجود اللامادي لروحي، في نفس اليوم الذي أنهيت فيه آخر قصص حبي بشكلٍ نهائي، وليست مصادفة أن يأتيني هذا الشعور هذه المرة عبر حاسة مختلفة، السمع!! كانت تغني تلك الفتاة الثائرة، منذ قالت الحرف الأول هاجمني ذلك الشعور من جديد، عرفتُ أن شيئاً غريباً يحصل، أن ذلك الشعور، ذلك الانفصال بين المادي واللامادي، ليس مجرد إعجاباً بعطرٍ ذي ذكرياتٍ جميلة، وليس مجرد شعوراً حتى، لا بد لي من التعرف إلى تلك الفتاة أكثر، لا بد لي من التقرب منها، سماع صوتها، المزيد والمزيد من الصوت، والمزيد والمزيد من إرسال روحي بعيدة عن جسدي، فخاصية السمع المهمة أنه غير متقطع كالتنفس الذي نستخدمه للسمع، لا بد من رؤيتها مرة أخرى وأخرى وأخرى، والتعرف – من خلالها – إلى ذلك الجانب الغامض من روحي أكثر.

ليست مصادفة أن تكون أول فتاة كنتُ قبلتها الأولى تعمل في نفس المقهى، المقهى الذي قضيت فيه الكثير الكثير من الأوقات، هي نفسها وجهاً لوجه أمامي الآن، بعد أن مر أكثر من ثلاثة أعوام من انعدامٍ تام للتواصل بيننا، تظهر فجأة ودون إنذار في لحظة كان يفترض أن يكون أهم ما فيها هو طلب قهوتي المعتادة، كان الأمر غريباً، لم أنطق بكلمة واحدة، طلبت ما أريد بصمتٍ – لا أعلم كيف كان ذلك ممكناً – وعدتُ إلى طاولتي، ليست مصادفة أنها قضت في العمل في هذا المقهى أكثر من عامين، ببساطة مضى عام كامل على جلوسي المنتظم في هذا المقهى ولم أنتبه يوماً لوجودها، لعامٍ كامل كانت على الأقل مرتين في الأسبوع أمامي تأخذ طلبي ولم أنتبه أنها هي، ليست مصادفة أن تظهر الآن بالذات، لا بد لي من التقرب إليها من جديد، من انتظارها حتى تنهي نوبتها، وثم التكلم معها، لا بد من رؤيتها واكتشافها من جديد، والتعرف – من خلالها – إلى ذلك الجانب الغامض من القدر أكثر.

ليست مصادفة، في هذا الوقت في الذات، في معمعة المصادفات الكونية الغريبة التي تحيط بي، أن يظهر شعوري بالوحدة من جديد ليطالبني بترك ذلك الهراء الوجودي والعودة للعيش كإنسانٍ عادي من جديد، ليس مجرد مصادفة، بالتأكيد تلك الأمور لم تكن مصادفة… ولكن من يهتم؟ في هذا الكون ما هو أهم من المصادفات واللامصادفات، هناك الطريق الذي نرسمه بأيدينا ونسير عليه بقرارٍ وإصرار.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها