لمحة عن رواية لصّ الشاشة
في زمن الثورات والحروب والأحداث الكبرى، هل تهمّ الحقائق الصغرى؟ وما الذي يستطيع فردٌ واحد أن يغيّره حين يجرفه تيّار التاريخ؟
لم يسعَ ثائر للبطولة، ولكنّ الصدفة صنعت منه ورقةً رابحة تطمع فيها الأيدي وتتجاذبها، ليجد نفسه على دروبٍ لم تكن لتظهر على خارطة حياته. هكذا، يتحوّل من لصٍّ إلى رمزٍ لنضال شعبٍ بأكمله، وترسم مساعيه ومساعي الآخرين للنجاة والشهرة خطوط حكايته وحكايات من حوله، منتقلةً به إلى أعمالٍ وبلاد، ومصائر جديدة.
في مكانٍ تملأ جدرانه شعارات النزاهة والحريّة والكبرياء، يكتشف ثائر أنه ليس فريداً من نوعه، وأنّ تناقضاته ليست سوى امتدادٍ لتناقضات الآخرين.
(غلاف الكتاب)
الفصل الأول
مدينة ثائر… مدينة ثائرة
فيما كان الأمل يغمر كلّ مشاهدي البثّ الحيّ للمظاهرة والمشاركين فيها، كلحظة تاريخية وبارقة أمل أخيرة لتحقيق الأهداف السامية، كان ثائر المرسنلي يرى في هذه المظاهرة فرصة تاريخية أيضاً، ولكن لأسباب مغايرة.
مظهر الشوارع يبعث على الاسترخاء، فالجميع في مكان واحد الآن، مجتمعين في الساحة الكبرى يغنّون ويهتفون سويّةً، ويمرّرون فوق رؤوسهم علماً كبيراً، علماً واحداً يجمع أهل المدينة تحت ظله، ويترك ثائر مع منازلهم ومتاجرهم الخالية ليسرقها بأريحية مطلقة.
كان يتجوّل في السوق الفرعي الذي رصد فيه متجر ذهب هارباً من سوق الصاغة، كانت فرصته الوحيدة لسرقة ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، فالتجمع الكبير للذهب في سوق الصاغة محميّ بحراسة مستمرة في أيّام العطل وساعات الإغلاق، والحراسة هناك تعني رجالاً يحملون مسدسات ولديهم كامل الصلاحية والرغبة في إردائه قتيلاً إن اقترب من ثروات أسيادهم.
إنها جمعة الكرامة أو الإباء أو الحرية أو الشهداء أو الأمل أو العزاء أو الجمهورية، شيء من هذا القبيل. وصلته الدعوة من أبناء حيّه، ووعدهم بأن يشارك في المظاهرة، وهكذا إن اتُّهم بالسرقة يستخدم المظاهرة حجّةَ غياب، وبالطبع سيكون هناك شباب آخرون غائبون عن المظاهرة يؤكدون لقاءهم به فيها ليثبتوا حضورهم الزائف بدورهم. تفرّج على البثّ الحيّ القادم من كاميرا هاتف صديقه أيمن قبل مغادرة المنزل، وتأكد من أنّ الأعداد كبيرة بما يكفي ليدّعي وجوده في المظاهرة.
وصل إلى متجر الذهب الذي يخطط للسطو عليه. ليس لديه شريك يفسد الأمر بغبائه أو ضميره الحي، يقول لنفسه «اِلعب وحدك تخرج راضي»، وذلك منذ خيبته بالشريك الوحيد في مسيرته؛ أيمن، ذات الناقل الحصري للمظاهرة، والجبان الذي قرّر أن يعترف لجارهم عبد الحميد أنّهما سرقا درّاجته الهوائية. لم يؤدِّ اعترافه إلى فشل أوّل سرقة لثائر فحسب، بل إلى تعرّضه في سن الخامسة عشرة لفضيحة شهدها كلّ أهل الحي. لم يستطع والده لملمة الأمر إلى أن وعد عبد الحميد بأن يعوّضه بثمن الدرّاجة فور استلامه راتبه، ولكنّ الضرر كان قد وقع، وأصبح ثائر يُعرف منذ ذلك الحين في حيّه بلقبٍ جديد؛ ثائر الحرامي.
كان يكره اللقب في البداية، ولكن مع مرور الوقت، ورغم عدم انكشاف أيّ سرقة أخرى قام بها، أصبح هذا اللقب مصدر رهبة له بين شبّان الحي، إذ يوحي بأنّه جاهزٌ للتسبّب بالأذيّة سلفاً، ما أكسبه بعض الاحترام القصري. اعتاد على اللقب وأصبح لا يمانع أن يُذكر بين الفينة والأخرى، ما دام من يذكره لا يرمي لإهانته أو تعييره.
أمام الكنز الذي طال انتظاره، ألقى نظرتين يميناً ويساراً ليتأكد من خلوّ الحي. سحب دبوس الشعر وملقط الحواجب اللذين استعارهما من درج والدته، وأخذ يعبث بالقفل حتّى تمكن من فتحه. علّق قفلاً آخر مكانه كي لا يثير الشكوك إن مرّ أحدٌ قربه، ودخل ليلتقي أخيراً بغنيمته المنتظرة، لكنْ كانت في انتظاره مفاجأة متوقّعة إلى حدٍّ ما.
لم يكن هناك غرام ذهبٍ واحدٍ في المحل. يعرف من أصدقائه أنّ الكثير من الصيّاغ لا يتركون بضائعهم في المتاجر، إنّما يأخذونها في حقيبة إلى المنزل حين يغلقون متاجرهم، لكنّه لم يتوقع أن تكون لصاحب المتجر الهَرِم هذه العادة، فالذهب أكثر أماناً بين جدران متجره ممّا هي عليه بين ذارعيه المتهالكتين.
لديه خياران الآن، إما أن ينام في المتجر بانتظار أن يعود صاحب المتجر صباح اليوم التالي، ويسرق منه حقيبة الكنز ويجري مسرعاً مراهناً على حركة سلسة في الشارع صباح السبت، أو يغادر الآن ويستسلم لحظه السيّئ، وربّما يلتحق بالمظاهرة كما فعل الجمعة الماضية، وينشل محافظ بعض المتظاهرين، الواثقين ببعضهم ثقةً عمياء تجعلهم غافلين عن حماية ممتلكاتهم الشخصية.
ولكن في الوقت نفسه لم يرغب في المخاطرة مجدّداً هذه الجمعة. قضى أسابيع عديدة يتجوّل بحذرٍ بحثاً عن متجرٍ يضربه، ولم يرد أن يضيّع تعبه. كما أنّ القبض عليه وهو ينشل على يد المتظاهرين، وإن كان احتمالاً غير وارد تقريباً، ينطوي على خطورة جمّة، فأبناء المدينة لن يتسامحوا مع من يشوّه ثورتها، فورة غضبٍ صغيرة لدقيقة واحدة أكثر من كافية ليسلبوه حياته.
كان عليه اتّخاذ قرارٍ سريع، فهي ساعة قبل أن يبدأ متوسّطو الحماسة بالعودة إلى منازلهم وسلبه حرية خلاء الحي، وهو مثل من يحتلّون مركز المدينة ونشرات الأخبار؛ غير قادرٍ على تقبل الهزيمة من جديد، ولا يسعه الانتظار. كانت قاعدته الأساسية حين قرّر ضرب هذا المتجر هي أن يأخذ ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، ولكنّ الشيء الوحيد الذي له أيّ قيمة هنا هو شاشة صغيرة، يستخدمها صاحب المحل ليشاهد أيّ شيءٍ يعرض على القناة الأرضية ويُمضّي به ساعات النهار المملّة بسرعة.
بعد تفكيرٍ استمرّ لدقائق معدودة، قرر أنّ الشاشة غنيمة ملائمة، ولم يكن ذلك طمعاً في ثمنها، فهو بالكاد سيجد من يشتريها سوى عجوز قميء آخر، وإنّما طمعاً في إزعاج العجوز الذي كبّده عناء التخطيط المطوّل لهذه الضربة العقيمة هباءً.
حمل الشاشة ووضعها على الأرض قرب الباب، ثم مدّ يده ورفع غَلَقَ المحلّ بما يكفي ليمر وهو منحنٍ، أخرجها قبله وخرج، ولكن مفاجأة أخرى كانت في انتظاره. دخلت دورية حرس وطني الحي وتمركزت في انتظار العائدين من المظاهرة التي ستبدأ قريباً بفقدان زخمها. لم تنوِ الدوريّات بالطبع أن تعتقل كلّ من يعود إلى الحي، فهم لا يملكون ما يكفي من المساحة لاحتجازهم، ولا رؤوسهم قادرة على استيعاب هذا العدد من الموقوفين دفعة واحدة. لكنْ في خضمّ الحماسة التي اجتاحت المدينة، لا بد من وجود بعض الساذجين – أو مفرطي الحماسة – الذين يعودون إلى منازلهم والأعلام أو اللافتات ما زالت في أيديهم أو مرسومة على وجوههم، وهؤلاء بالضبط هم من جاءت الدورية لتتلقّفهم فور عودتهم.
كانت المظاهرات ضد المجلس والمسيرات الداعمة له تحصل في أيام مختلفة من الأسبوع، ولكنّها ترفع ذات الأعلام والشعارات العامّة تقريباً، ولذلك تمثّل الأعلام المرسومة على الوجوه مثلاً تهمة تعرّضك للاعتقال أيام الجمعة، وتذكرة مرور ميسّر أيام الثلاثاء.
حين خرج ثائر من المحل، لم ينتبه للسيارة التي توقّفت قرب المتجر وهو في الداخل، زجاجها الأسود جعله يغفل عن احتمال وجود أحدٍ داخلها. ولكن ما هي إلّا لحظاتٌ بعد انطلاق بوق السيارة الذي تجاهله ثائر حتّى تحركت السيارة نحوه.
– صباح الخير. باغته السائق.
إنّها سيارة للحرس الوطني، لا يمكنه أن يخطئ هيئة الجالسين داخلها، خصوصاً حين لاحظ المسدّسات الرشاشة النائمة على أحضانهم، توقّف واثقاً من أنّه في مأمن نسبي، كذبة صغيرة وتُحلّ المسألة، إن كانوا يوقفونه ليسألوه عن الشاشة أصلاً.
– صباح النور. ردّ عليهم بصوت واثق ووجهٍ بريء.
– هويّتك لو سمحت. أجابه السائق ومدّ له يده بانتظار الحصول على الهويّة.
وضع التلفزيون على الأرض وأخرج هويّته، قدّمها لهم مع كلمة «تفضّل» سابقة كي لا يبدو الوقت الذي استغرقه أطول من اللازم. قلّب السائق الهويّة وعاين الجانب الخلفي من البطاقة ليتعرّف على خلفيته المناطقية ومن ورائها الإثنية، ثم قدّم الهويّة للرجل الجالس بقربه، والذي نظر إليها باستغراب ومدّ رأسه إلى الأمام ليكلّم ثائر.
– أنتَ من المقطّع؟ سأله فيما كان السائق بقربه ينظر إلى شاشة هاتفه، مقدّماً إيحاءً زائفاً بأنّه نقل الأمر لسلطة أعلى منه الآن.
– نعم، من المقطّع. وتناول التلفزيون من الأرض ليزرع في رؤوسهم أنه سيغادر بعد قليل.
– وهل تسكن هنا؟
– لا، أسكن في المقطّع أيضاً.
في تلك اللحظة عرف ثائر أنّه في مشكلة، إذ نزل العنصر الجالس في الخلف، والذي لم يستطع رؤيته قبلاً لكونه لم يفتح نافذته. تناول بطاقة ثائر الشخصية، وأطفأ السائق محرّك السيارة.
– هل تعمل في المتجر الذي خرجتَ منه للتو؟ سأله العنصر الذي أصبح يقف بجانبه ويحدّق في بطاقته الشخصية ووجهه بالتناوب.
– نعم… هو لعمّي وطلب منّي أن أحضر التلفزيون إلى منزله.
– وهل رزق عمّك مَشاع لتترك غلَق المحل مفتوحاً بهذا الشكل؟
أدرَك ثائر ألّا مفرّ سهلاً من ورطته الآن، كذبة أو اثنتان قد تمرّان، ولكنْ أكثر من ذلك ستبدأ «الرواية الرسمية» بالتناقض مع نفسها، وستتعسّر العودة للأجزاء السابقة بلا أخطاء. كان عُرفاً في مدينته بأنّ على من يتعرّض للتوقيف أن يكذب كذبة بسيطة، إذ سيتم التحقيق معه مرّةً أولى، ثم مرّة ثانية بعد تسع ساعات، ثم مرّة ثالثة بعد يومين أو ثلاثة، وهلمَّ جرَّا، وسيقارنون التفاصيل في كلّ مرّة مع سابقاتها ليعرفوا مدى كذب المعتقل من كميّة الاختلافات التي تصيب التفاصيل. قرّر ثائر أن يلجأ لأسهل الحلول رغم ما يحتويه من مخاطر؛ أفلت الشاشة من يديه لتسقط على قدم العنصر الذي يقف قربه، وفيما تناثرت أجزاؤها وزجاجها، سحب ثائر هويته من يد العنصر وبدأ يجري هارباً.
لم يسعَ ثائر للبطولة، ولكنّ الصدفة صنعت منه ورقةً رابحة تطمع فيها الأيدي وتتجاذبها، ليجد نفسه على دروبٍ لم تكن لتظهر على خارطة حياته. هكذا، يتحوّل من لصٍّ إلى رمزٍ لنضال شعبٍ بأكمله، وترسم مساعيه ومساعي الآخرين للنجاة والشهرة خطوط حكايته وحكايات من حوله، منتقلةً به إلى أعمالٍ وبلاد، ومصائر جديدة.
(2023)