الظلام خيّم على المدينة، لا اتصالات، لا كهرباء، لا ماء.
في أسرّتهم، ينام ذات السؤال على وسائد كل أبناء المدينة. لماذا نتحمّل كل هذا؟ ما الذي حصل حتى سُلبنا شيئاً فشيئاً أسباب الحياة؟ من قرر أننا مجبرون من الآن وصاعداً على شغل أنفسنا بأشياء لا تخطر على بال الآخرين… الذين يسكنون المدن الأخرى؟
أحد أبناء المدينة لم يعرف سبيلاً للنوم، بل ظلّ يتأمل هذا السؤال الماكث قربه على الوسادة كمن ينظر نحو حبيبته القديمة. في الخارج، كان القمر بالكاد ينير جحافل الغيوم التي يختنق خلفها. نهض من سريره، وتبعه السؤال إلى سلالم المنزل التي تكاد تتآكل تحت وطأة الغبار بعد غياب المياه لأكثر من أسبوعين، وصل إلى سطح المنزل وأخذ يراقب المدينة من حوله.
اكتشف أن حيّه يبدو كحفرة بين كل أحياء الأبنية الشاهقة المحيطة به. كل صباح تستيقظ هذه الحفرة ويتوزّع أهلها الذين يخدمون أثرياء المدينة إلى أعمالهم، عمّال نظافة وسائقين وبنّاؤون وعمّال توصيل…ألخ، وفي نهاية النهار، يعودون إلى حفرتهم الكبيرة بانتظار صباح نهار آخر يقضونه في خدمة الآخرين.
نظر إلى السؤال الذي تبعه إلى السطح وكانت ملامحه متجهّمة بسبب مقاطعة غفوته وإخراجه في هذا الطقس البارد. استفسر منه عن رأيه بإيماءة من رأسه، ولكن إيماءة رأس السؤال قالت لا. عاد أدراجه محبطاً إلى غرفته الضيقة؛ فيها نافذة ضيقة أيضاً يمكنه أن يرى السماء في زاويتها العلوية اليسرى وتدخل الشمس منها تسع دقائق كل يوم.
استلقى على سريره فوق البطانية مستسلماً لحقيقة أنه لن يتمكّن من النوم، أما السؤال فتسلل تحتها وبدأتْ أنفاسه المنتظمة تصل لمسمع الشاب المستسلم للأرق. لماذا؟ سأل نفسه مواصلاً العجز عن إيجاد عبرة أو سبب منطقي لما يصيب هذه المدينة من شلل ويرجعها مئة عامٍ إلى الوراء، وما يثير حيرته أكثر هو سكان أحياء الأبنية الشاهقة، كم يملكون من المال حتى ما زالوا يتحملون تكلفة خدمات التنظيف وسيارات الأجرة وتجديد ديكورات منازلهم وتناول المأكولات الجاهزة كل يوم؟
نهض عن السرير بحيوية أكبر هذه المرّة، وقطع السلالم بقفزاتٍ قليلة، أمّا السؤال فنهض متأففاً من مزاجية صاحبه، وتبعه بخطواتٍ أقل حماسة إلى السطح. عندما وصل وجد صاحبه يتأمل الأفق من حوله، كان يلاحظ هذه المرة أن الأبنية الشاهقة مضاءة؛ لهذا لم يعد حيّه حفرة فقط، بل بقعة مظلمة أيضاً.
حملَ السؤال ودار به قليلاً ليريه كل الأحياء التي تحتل الأفيق المحيط بهما، ثم تبادلا النظرات وكان الشاب بانتظار أدنى إيماءة من السؤال، وحين جاءته تلك الإيماءة بالموافقة رمى السؤال عالياً في الهواء، وصل إلى ارتفاع معقول ولكنه بدأ بالهبوط عمودياً ببطء، وقبل أن يصل إلى مستوى رأس الشاب بسنتيمترات انفجر السؤال إلى مئة لماذا وانطلق ممتطياً الرياح الأربع نحو أحياء الأبنية الشاهقة.
–
في ساعات الصباح المبكّرة، المبكّرة جداً، لا يستيقظ من سكان المدينة سوى أبناء هذه الحفرة، ليجهزوا قهوة وطعام وسيارات وملابس وجدران أحياء الأبنية الشاهقة، لهذا كانوا هم من رأوا سرب الأسئلة قبل الآخرين، رأوها تحلّق بعشوائية هاربة من حيّهم، ولا يُعرف من بالضبط الذي أطلق سراح أسئلته بعد ذلك الشاب، ولكن بالتأكيد لم تمر دقيقة أو دقيقتين حتى كانت آلاف الأسئلة تحلق حرّة في فضاء الحيّ، ثم كما لو أنها تقلد انفجاراً انطلقت مسرعة نحو أحياء الأبنية الشاهقة في الاتجاهات الأربعة.
أقل من ساعة مرت قبل أن تغزو أسراب الأسئلة كالجراد أحياء الأبنية الشاهقة، ولم ينجُ أحدٌ مهما ارتفع منزله من ظلها الرهيب الذي حجب نور الشمس، ولا من صوت الإلحاح الذي تتميز به، والذي يأتي من ألف سؤال دفعة واحدة كطرق الطبول.
استيقظت غرفة النجدة في مركز شرطة المدينة على آلاف الاتصالات التي تشتكي من أسئلة الفقراء، وطلبت جميعها أن تأتي الشرطة على وجه السرعة لإجبارها على مغادرة الحي. انطلقت سيارات الشرطة مسعورةً في كل الاتجاهات بحثاً عن هذه الأسئلة التي تقلق راحة المواطنين، خصوصاً أن هناك أخباراً تفيد بإطلاق بعض سكان الأبنية الشاهقة لأسئلتهم أيضاً.
لم يكن بوسع السلطات أن تسمح بهذه الفوضى من الأسئلة، وتحرّكت غير مقتصدة في جهودها لإرجاع أعداد الأسئلة الشاردة إلى مستوياتها الطبيعية. مثلاً حين اكتشفتْ أن الكثير منها تحلق على ارتفاعات شاهقة، لم تتردد في طلب سيارات الإطفاء التي وجهت خراطيمها نحو أجنحة الأسئلة كي تتبلل وتسقط على الأرض حيث تستطيع الجهات المختصة مصادرتها.
استغرق الأمر أقل من ساعتين، تم إسقاط كل الأسئلة ومصادرتها، وعادتْ الحياة إلى طبيعتها على الفور، بما في ذلك حياة أولئك الذين أطلقوا أسئلتهم وشغلوا المدينة بها. في المساء، حين عاد الجميع إلى منازلهم، كان تقرير إخباري مقتضب بانتظارهم، الخبر يقول: إتلاف المصادرات التي أقلقت راحة المواطنين صباح اليوم.
المقطع المصور يظهر الأسئلة وهي تُجمع في ساحة عامة، جعلوا منها كومة واحدة وأشعلوا النيران فيها. لم تتألم الأسئلة، فقد قُصّت أجنحتها جميعاً، وكما هو معروف، فإن أي سؤال يتحول لجسد بلا روح حين تزال أجنحته. كانت بلا إحساس، مخدّرة أو ميتة قبل أن تصل إلى هذه المحرقة، اضطرب الجميع وهم يتفرّجون على هذه النهاية الوحشية لمغامرتهم الصباحية، وعند انتهاء التقرير انقطعت الكهرباء على الفور في كافة أرجاء المدينة، واتجه الجميع إلى النوم صامتين.
الظلام خيّم على المدينة من جديد، لا اتصالات، لا كهرباء، لا ماء، ولا أسئلة.
الصورة : فينسنت فان غوخ – “حقل قمح وغربان”