مقطع من رواية (وسادة من عشب) لـ ناتسومي سوسيكي (1867 – 1916) – ترجمة: وليد السويركي – مسكيلياني للنشر والتوزيع (2019)
أصعدُ الدرب الجبليّ مُحدّثاً نفسي: إنْ أنتَ ركنت إلى العقل، ستكبر فظّ الحواس، وإن أنت أبحرت في مياه العاطفة، سيجرفك تيارها، أما إن غلّبتَ إرادتك، فسينتهي بك الأمر إلى التضييق على نفسك، وكيفما قلّبتَ الأمر ستجد في النهاية أن الحياة في عالم البشر ليست بالأمر الهيّن.
وحين يتعاظم شعورك بقلق الحياة، ستتملكك الرغبة في العثور على مكان وادع تستقرّ فيه، لكنك ستدرك أن الحياة شاقةٌ حيثما حللت، وعندها يولدُ فيك الشعر والفن.
لا الآلهة خلقتْ عالم البشر هذا، ولا خلقتْه الشياطين، بل صنعه أناسٌ عاديون مثل جيرانك الأقربين. وإذا كان من الصعب أن تحيا في عالم البشر هذا، وقد صنعه أناس عاديون، فلا بد من وجودٍ لعالمٍ أفضل يمكنك العيش فيه. ليس أمامك إذن سوى الانتقال إلى عالم لا بشر فيه، غير أن العيش في عالم يخلو من البشر أصعبُ بالتأكيد من العيش في عالمهم.
ولما كان العيش في هذا العالم الذي لا نستطيع مغادرته أمراً شاقاً، فإن علينا أن نجعله مريحاً ولو قليلاً، كي نقوى على احتمال حياتنا العابرة فيه، ولو لفترة قصيرة من الزمن، وهنا يتجلى نداءُ الشاعر وتظهر موهبة الفنان. فكل مبدعٍ هو عظيمُ القيمة، لأنه يخفف من قسوة عالم البشر ويثري قلوبهم.
نعم إن بوسع قصيدةٍ أو لوحةٍ أن تطرد كل ضجرٍ من هذا العالم، حيث يصعبُ العيش. فهي تعرض أمام عينيكَ عالماً من الجمال، وكذا تفعل الموسيقى والنحت. وعلى وجه الدقة لا حاجة إلى تقديم هذا العالم من خلال الفن، إذ يكفي أن تتأمله مباشرةً كي تعثر على قصيدةٍ حية، ونبع من غناء. لا حاجة إلى أن تخط أفكارك على الورق، فصوت البلور يرنّ أصلاً في القلب، ولا حاجة إلى أن تسكب ألوانك على قماش اللوحة، فأطياف العالم وألوانه الكثيرة تلمع أصلاً في عينك الباطنية. يكفي أن نكون قادرين على تأمّل المكان الذي نحيا فيه، وعلى أن نلتقط بكاميرا القلب المرهف صورَ البراءة والصفاء في عالمنا الملوث هذا. وعليه، فإن شاعراً مجهولاً لم يكتب بيتاً واحداً، أو رسماماً غامضاً لم يرسم لوحة واحدة، لأسعد من صاحب ملايين أو أمير، بل ومن مشاهير العالم المبتذل كافةً، ذلك لأنهما قادران على رؤية الحياة الإنسانية بعين الفنان ولأن بوسعهما التحرر من كل انشغال، والدخول في عالم النقاء، وتشييد عالم فريد، والتخلص من قيود الأنانية.