إنها ظهيرة صيفية تقليدية، حر قادر على الغياب في الاعتياد، ريح لافحة تهز نافذة غرفتي وبابها، شوارع البلدة – الظاهرة من نافذتي – خالية تماماً، خالية دائماً تقريباً، كما لو أنها تنتظر شيئاً، شيئاً لا يأتي وتنتظره منذ سنوات. تنظر بحذرٍ إلى جيرانها، ولا تعرف أي درس عليها أن تتعلم، فتظل صامتة، ويبتلع الخلاء شوارعها مبكراً، لا يكسر حدته سوى الأطفال الذين يلعبون كرة القدم على أي مستطيلٍ من الإسفلت، حتى لو كان طريقاً دولياً.
أجلس على كرسيّ الجديد، أدخن سيجارة جافة ككل شيء من حولي، وأتأمل كل هذا الفراغ، سكون إسمنتي يلف المكان، والموسيقا البطيئة تضفي سينمائية سوداوية على المشهد. هذه البقعة من الأرض لم تشهد سوى لحظات نشاطٍ قليلة، كانت أرضاً زراعية خاوية، حضرت بعض الجرافات والمكنات الثقيلة، حفرت حفراً هائلة في الأرض، ركبت الغرف فوق بعضها البعض، تركت أبنية باهتة، صفراء وسكرية وبرتقالية اللون، ورحلت. ثم جاء سكانها، تسللوا إلى المنازل بصمت، دون ضجيج ودون الكثير من الأسئلة، مكثوا في بيوتهم، ولم يخرجوا منها سوى مرة واحدة لزراعة حديقة ترابية تتوسط الأبنية الخمس، ثم عادوا إلى منازلهم، تاركين الشوارع نهباً للرياح.
هنا تفرجت على الحرب بالعين المجردة ودون صوت المصور المتباكي، جاءت الحرب على شكل بقعة سوداء مائعة الحدود، تهبط – لا أرى هبوطها بل تنبع من العدم فقط – بصوتٍ يكتم كل الأصوات لجزءٍ من الثانية، ليهبط في الآخر إلى معدتي ثقيلاً مزعجاً مطلق الرعب. منذ ذلك النهار لا ينفذ ضوء الشمس بشدة إلى غرفتي، في الشتاء بالكاد أستطيع أن أميز أي شيءٍ خارج الزجاج المشوّه، المغلف بتجليد قبيحٍ يخفي جراحه، لا يسمح بعبور أكثر من ظلالٍ فاهية للجامع وجدران الأبنية، خيالاتٍ عديمة الخطوط والمعنى.
إنها ظهيرة تقليدية تماماً، والتفكير برائحتها يبث فيَّ الكثير من الارتياح، يجعلني أتجاهل خيالات انفجار الزجاج وتشوه وجهي القبيح أساساً، أكتفي بالتفكير بكل مساحات السكون المحيطة بي، بالصحارى التي يمر عليها الهمج وتظل غافية، راكنة إلى نفسها في قيلولة أبدية. هذه البلدة خالية تماماً، جميع من فيها لا يعرفون إن كانوا أبناء العاصمة أم ريفها أم أبناء الجبال والسهول البعيدة – خلف الصحارى – التي جئنا منها، خالية تماماً من أي جذرٍ متأصل في التراب، بلدة من الغرباء، يدافعون عما لا يملكون ويصرون على ما لا يعرفون، الأبناء الأقل ضجيجاً للأرض، وأشد أرطال اللحم البشري ارتجافاً دون أسبابٍ على الإطلاق.
مع توقف صوت الموسيقا وبروز صوت الصيف ومولدات الكهرباء، أشعر أنني في المكسيك، وأتذكر أنني قرأتُ عن حربٍ تدور هناك، هي الوحيدة التي تفوق حربنا بطشاً بالأرواح، وأتذكر أيضاً أن هناك قارة ومحيطاً كبيراً يفصل بيننا، والكثير الكثير من السكون الإسمنتي بين الصمتين.