لا أملك منكِ سوى ابتسامة ونصف وجه، لا أملك منكِ سوى بصيص أمل وليلة لطيفة، التفرج على حكم الإعدام أشد ألماً من الإعدام نفسه، من يصرخ لا يصمه الصراخ، كل ما لدي منكِ هو الجزء الأخير من الكون، الأرض الأخيرة كي نكتشفها، رحلة السفن الأخيرة، أسمع أصواتهم تعلن نهاية المهمة، أرى من هنا القبعات تتطاير فرحاً، الأطفال يبكون غير فاهمين سبب الضجيج، كل النساء تنهدن مطمئناتٍ؛ “لن يخلوَ السرير بعد اليوم”، أنا لا أملك منكِ سوى لحظة الاحتفال الأخيرة، حيث الصفحة الأخيرة من الكتاب موجودة هناك، لا نعلم عن كل الحكاية سوى أن لها نهاية سعيدة، البقية مجهولة، احترقت صفحات الكتاب مع باقي الأثاث.
مجرد التفكير بالأمر يدفعني للجنون، يدفعني للحديث إلى الجدران، لتقمص روح المغنية المجنونة التي تغني في غرفتي منذ الصباح، أتأمل انعكاس وجهي في خزانتي الزجاجية، أتخيل أشلاء جسدكِ الماكثة في مخيلتي تقف إلى جانبي، حقاً؟ هذا ما حصل؟ انتهى بيَ الأمر أحلم ببقايا جسد، بالعودة إلى الوراء ومنع كل شيءٍ من الحدوث، أن أصل إلى المكان قبل قذائف الحقد، أن أصل إلى الزمان قبل انفجار الماضي في وجوهنا، كل الوجوه مشوهة، فاقدة الخلايا الشهية، لا متعة في تقبيل وجوهٍ يملؤها الحقد، لا متعة في عناق أجسادٍ ترتجف بالحقد الماكث داخلها منتظراً الرصاصة التالية لينطلق، قد أكسر خزانتي الزجاجية، سأصدم رأسي بها، وسنرى، من أكثر هشاشة الآن، أنا أم لوحٌ رخيصٌ من الزجاج، أنا أم شبه ذكرى؟
هنا لا يوجد ما يكفي من الألم، الكثير من الخوف، لكن لا يوجد ألم، الخوف دون ألمٍ كسكب الخمور في معدة فارغة، لا شيءَ ينتج سوى الحزن، لا شيءَ ينتج سوى الذكريات الصامتة، وابتسامةٌ السكران الأخيرة قبل أن ينفجر بالبكاء، حيث تصبح كل الوجوه وجهكِ، ولتحضن الطاولة الأقرب الفتاة التي سألبسها وجهكِ، وأرسم على عنقها ما فاتني، سأرسم عليها كل الحكايا، كل التفاصيل البريئة والمذنبة، ليست الحبيبة من تجعل مني جباراً، إنما تلك التي تحولني إلى بقايا رجل، التي تدفعني إلى زاوية غرفتي الصغيرة، حيث يمكنني أن أطلب من الجدارن التحول، أن أطلب من الأرض تحتي الاتساع، لتتحول إلى ملاءة أحركها كما أشاء، أسحب غرفتكِ، بضعة كيلومتراتٍ لن تكون مشكلة، أرفع السرير في غرفتي لأترك متسعاً لثيابكِ وصناديق الماضي التي تلاحقكِ كحيوانٍ أليف، وأرسم حول حذائكِ دائرةً محرمة على الجميع سواي، ولن تخلعي حذائكِ، سأتدبر لكِ استثناءً وزارياً لتكوني داخلها.
أنا لا أملك منكِ سوى ابتسامة، هل تعلمين في هذه البلاد كم هو محظوظ الذي يملك ابتسامة؟ لا أدري إن كانت تلك التي أملكها ابتسامتك أم ابتسامتي، أم أنها تجلي الرب الأخير الذي اختار وجهكِ ووجهي للظهور، قطرات دم الناصري لن تسيل بعد اليوم على الحجر الأصم، سيكتفي الله بابتسامةٍ والكثير من الموت، أنا لا أملكِ منكِ ذكرى، لا أملكِ منكِ رائحة أو ملمس إصبع، لا أملكُ منكِ شفاهاً، أملكُ ابتسامة لا أملك شفاهها، أملكُ ثمرة الحياة ومحرمٌ عليّ تذوقها، ثمار الحياة تقلقهم أكثر من سموم السعادة، يضيقون الخناق علينا في الزنازين كل يوم، لا أريد الخروج، لا أريد الحرية، أريد فقط أن تكون زنزانتي بالقرب من زنزانتكِ، ربما يصلني القليل من غنائكِ الذي يغضب الحارس الأصلع.
ابتسمي قليلاً، قليلاً بعد، لاشيءَ يمحي الحرب كابتسامة، لا شيءَ يهزم كل جيوش الأرض ومجرميها كابتسامة، لا شيءَ يمكنه أن يغير التقويم والساعات وحتى اتجاه دوران الأرض كابتسامة، لا شيءَ يمكنه أن يحول الماء إلى خمر، والخمر إلى بحر، والبحر إلى شمسٍ والشمس إلى ماءٍ كابتسامة، كل قطرة ماءٍ تبتسمين أمامها تمر بكل ذلك في ظرفِ ثوانٍ، كسرعة تغير لون وجهكِ حين أقول لكِ أنني هنا بانتظاركِ، حين تعلمين أن هناك من ينتظركِ على الضفة الأخرى من الألم، على الضفة الأخرى من الجنون الذي يحيط بكِ، ربما في خضم عجلتكِ الصباحية تغسلين وجهكِ بالشمس بدل الماء، ربما تجففين وجهكِ بتراب الأمازون، وترمينه بلا اكتراثٍ على ذراعِ أكثر الفراعنة سعادة على الإطلاق، ربما – لستُ متأكداً – أتمكن يوماً ما من الإمساك بالماء، لا تفعلي شيئاً سوى أن تبتسمي، فقط ارسمي ذلك الشيء الذي يزيد من وزن الهواء من جديد، ودعيني أداعب الماء.
لا تخفي وجهكِ، لا تدّعي الخجل، ألم تري متسولاً قبلاً؟ لا تمدي يدكِ إلى الحقيبة إشفاقاً، ولا تدّعي أن ليس لديكِ من النقود ما يكفي، فقط ابتسامة، تعين متسولاً على النجاة إلى اليوم التالي من الحرب.