المأساة أبسط بكثيرٍ مما ترون، الحياة أسهل بكثيرٍ مما ترون، الحياة هنا ليست صعبة، فقط انتظار الموت يومياً هو الصعب، لا يمكنك أن تترك وعوداً، لا يمكنك أن ترسم صوراً غير مكتملة، لا يمكنك أن تنام أو تخرج من منزلك تاركاً شيئاً غير مكتملٍ، همك الوحيد هو أن يكون رحيلكَ كاملاً، أن يجد الآخرون ما يذكرونكَ به، وكل شيءٍ سوى ذلك ليس مشكلة، أسعار السجائر على ارتفاع، وذلك أيضاً ليس مهماً، اعتدنا أن ندخن أي شيء، بتنا الآن قادرين على تدخين الشاي ما دام سينثر بعض السحاب المزعج حول الغرفة، ذلك أكثر من كافي.
تسير في شوارع دمشق القديمة، تشعر بأنكَ في بلدٍ آخر، سوى صوت القصف المستمر من مكانٍ قريبٍ لا يعلمه أحد على مكانٍ آخر قريب لا يعلمه أحدٌ أيضاً، وبعض الحواجز التي باتت شبه معطلة هنا وهناك، لا شيءَ يبدو غير اعتيادي، الأسعار ترتفع كل يوم، ولكن ذلك بات اعتيادياً، فقط انخفاض الأسعار هو غير الاعتيادي، تأكل حد التخمة، وأنتَ تفكر بأنكَ ستوجه شكراً لهذا المحل لتخفيضه أسعاره مع سعر الدولار، ورغم أن بضاعته وطنية أكثر من الحكومة نفسها، إلا أنهم يصرون أن كل شيءٍ عليه أن يتأثر بسعر الدولار، حتى الفول والحمص والبيض المقلي.
جميعنا نتجاهل أصوات القصف، ندير وجوهنا عن منظر الدخان، ونتصرف وكأن تلك أصواتٌ تنتجها الطبيعة، لا فرقَ عملياً، في الحالتين لا قدرةَ لنا على تغيير شيء، نقدم تبريرات اقتصادية وعلمية لعدم إعطاء المتسولين النقود، في داخلنا جميعنا نعلم أننا أصلاً لا نملك ما نعطيهم إياه، جميعنا ننتظر اليوم الذي نمارس فيه البطولة ونقدم لأحدهم وجبة غداء، ولكننا بالكاد قادرين على إيجاد حلٍ لوجبة غدائنا نحن، وحلٍ اقتصادي لمشكلة لا نريد تعميقها بإعطاء المتسولين النقود كما ندعي.
قد أشعر ببعض الجوع أحياناً، قد أشعر ببعض الظلم والغيرة والحسد وتشكيلة منوعة من المشاعر السلبية، أفكر قليلاً بالليلة الماضية، أبتسم، تدوم الابتسامة عدة دقائق، لحين سماع الصوت التالي، أشعر بالذنب تجاه أولئك الذي يقفون تحت سقوف منازلهم مذعورين، بانتظار الموت، أصعب ما في الحياة هنا هم يملكون أصعب حالاته، ونحن ليس علينا سوى أن نعترف بحقهم بالحياة ونتابع حياتنا، ذلك ليس ذنبنا، فقط من يملك بندقية آلية على الأقل له الحق في توزيع الحياة والموت على الآخرين، وتلك البنادق النائمة المحيطة بنا أينما سرنا، نحن أحياءٌ بسبب قرار صاحبها لا أكثر، الطعام يذهب ويأتي، وحده السلاح البارد يمنحنا الحياة اليوم.
هم يكبرون، ونحن نضمر، نفقد أغصاننا كشجرة لعنها المسيح، ولكن الأسوأ أننا نفقد الأغصان فقط، دون أن نموت، نتجمد أمام المرآة مضطرين للتفرج على أجسادنا تفقد لونها، معظم الجزء السفلي من جسدي بلا رائحة الآن، حتى تعرقي بات صامتاً، يأتي العرق ويجف دون اكتراثٍ، لا يطالبني بشيء، عرقي الآن بات غير متطلب، يريد فقط بعض الملابس ليلوثها، وبعض العرق الآخر الذي يؤنس وحدته، وسوى ذلك فإنه يترك لي كامل الحرية لأفعل ما أشاء، حتى أنه توقف عن الشكوى من المروحة المهترئة التي تعيق حركته.
هم يكبرون، يكبرون أكثر مما يجب، وعلينا – بوصفنا أشجار تينٍ ملعونة – أن نوازن الأمور، هل من مفر من تقليم بعض الأغصان؟ على مصفاة الله أن تتسع قليلاً، على القاعدة القديمة برحيل الجيدين وبقاء الشياطين التي تتنفس أن تنتفي، لن نموت، ذلك جيد، ولكنه دليلٌ على أننا الأشرار في هذه الحكاية، هل رأيت حكاية حقيقية يموت فيها الأشرار في النهاية؟ أبداً! إن كنتَ عاجزاً عن تصديقي، شاهد نشرة الأخبار، إنهم لا يكتفون بالبقاء على قيد الحياة، بل يكبرون، ويبدؤون أجزاءً جديدة من الحكايا التي تقتل الجيدين، ولا بد لنا كأشجار تينٍ ملعونة من موازنة الأمور، لن نقتل الأشرار، ما من شريرٍ من الممكن قتله، بل علينا أن نصبح جميعاً في جانب الشر، كي لا يبقى من الأخيار أحدٌ يقتلونه، وليذهب التين إلى الجحيم، فلتحل لعنات الناصري على كل أشجار التين.
غداً سأتعرق بصمتٍ، ولن أنظر في المرآة بانتظار سقوط ما تبقى من الأغصان، يقولون أنني أفقد وزناً، لا لستُ كذلك، ما يصيبني هو ضمور، سيتوقف عن الاكتفاء بتقليص الأحجام قريباً ويبدأ بالفتك بالأعضاء كاملة، ربما يوماً ما سيتسبب هذا الضمور بالتوقف عن التعرق، حتى بصمت…