تري

DavidFuhrer

أنا لستُ شجرة، أو هذا ما قيل لي.

لا رغبة كافية لفعل أي شي، الوقت يبدو أبطأ من أي زمنٍ مضى، إلا حين يتعلق الأمر بالنقود، لدينا الوقت الكافي لفعل أي شيءٍ، ولكن لا شيءَ لدينا لفعله، فقط نشاطاتٌ مكررة، نفس المكان، الكحول والدخان، الموسيقا والنساء، قد تختلف بعض النساء، وأحياناً – في حالات التمدد الكبرى – قد يختلف المشروب الكحولي، ولكن باقي التفاصيل لن تتغير، على الأقل ليس قبل هدوء القذائف العشوائية التي تجعل الحياة خياراً أكثر عبثاً.

أنا لستُ شجرة، أو هذا ما قبل لنا.

لا بد من بعض التسامح مع الكثير من الخطايا، جميعهم رحلوا، جميعهم في الخارج، نحن – الباقون في دمشق – القلة المغتربة، خياراتنا محدودة، علينا أن نرضى بما أمامنا، ونتسامح، لا بد من المزيد والمزيد من التسامح، لا بد من المزيد من التجاهل، قدرتنا على تجاهل موت العشرات حولنا والتفرج على الجثث المرتمية على أطراف الطرقات دون أي مشاعر جديدة جلعت التسامح مع قبلة واحد وليلة واحدة أمراً هيناً، لا خيارات أخرى أمامنا، مجبرون جميعاً، لا أبطال، لا مكان للمزيد من الأبطال، لا بد من حجزٍ مسبق، وحتى ذلك الحين ليس علينا أن نتصرف كالأبطال، حكايات البطولة موجودة فقط في الأفلام ونشرات الأخبار.

أنا لستُ شجرة، يمكنني التحرك.              

لا يمكننا أن نذهب جميعاً، على أحدهم البقاء للحراسة، إلى ألا يظل شيءٌ يُحرس على أحدهم البقاء، لقد تطوعنا للقيام بهذه المهمة، اِذهبن، لا تنسوا الختم على جواز السفر والقبلة الأخيرة قبل توضيب الحقيبة، القهوة لا تملك القدرة على التخثر، والدماء لا وقت لها لتقوم بذلك، قريباً لن يبقى شيءٌ ليُحرس، عندها سنذهب، سنلامس جباهكم من جديد، سنرسم لكم صورة تقريبية عما حصل، سنكذب، الله وحده يعرف كم سنكذب، فقط من يحبك يكذب عليك، لا تكترث إن هُدم جدارٌ في منزلك ما دامت أسرتك على قيد الحياة، من يكترث إن كانت خيانة تحوم حول كتفيكَ ما دامت ليلاً ستمتعك؟ كل النوم لن يكفي، كل الأسرّة باتت بؤراً للخوف، بؤرة للنوع الصامت الذي يتنقل مساءً بين أقدامِ تسويات العشق في المدينة القديمة.

أنا لستُ شجرة، يكمنني الشعور بالتراب تحت قدميّ.

يكفيك الآن أن ترى عينين وأنفاً وفماً كي تتخيلها عارية، حجم ثديها ليس مهماً، في خيالك جميع الأثداء تتساوى في الحجم مع حجم ثديها، اللون أيضاً – في رأسكَ – بات موحداً، حتى إنكَ بتَ قادراً على تخيل حركة لسانها داخل فمك، قبلة فرنسية، أستبعد أن يمارس الفرنسيون كل هذا العنف في أفواه بعضهم البعض، عليكَ أن تغير نوع سراويلك الداخلية أو أن تصبح أكثر تحكماً بانتصاباتك، كل القهوة التي شربتَها تصل إلى قطعة لحم واحدة من جسدك، وأنتَ تحاول أن تتجاهل نظراتها، تدرب نفسكَ على الرفض، وتجهز طريقة كي تطلب منها معونة نفسية تمكنك من نسيان أولئك الذين تركوكَ وراء ظهرهم ورحلوا.

يمكنني أن أكون شجرة، وسأفعل.

لا مهرب آخر أمامكَ، محاولاتك لإيجاد طريقٍ آخر لا طائل منها، كالبحث عن غاز سوى الأوكسجين يروي شغف رئتيك، اهرب إلى الأمام، حيث يسلك الجميع، لا تكترث بالازدحام، لا بد أنكَ اعتدت على الأمر، الفرق الوحيد هنا ألا مجال للترجل، لا مجال لتجاوز البندقية التي أضجرتكَ، ذاك الوجه الذي يجاور طاولتكَ عادةً سيكون هناك، سينسيكَ بعضاً من طول الطريق، ذاك الذي لا سواه أمامكَ.

أنا شجرة، ليست هناك طريقة أخرى لأحيا.

أنتَ لا تتذكر رائحتها، حتى إنكَ لا تعرف رائحتها، تدخينك بأنواعه يكاد يفقدكَ حاسة الشم، لا ليست الشم، إنما حاسة الاستنشاق، هناك رائحة مستمرة التواجد في الغرفة، أقنع نفسكَ من جديد أنها رائحتها، لا يبدو الأمر منطقياً، لا شيءَ مما حولك يبدو منطقياً، تفصيلٌ غير منطقي آخر لن يضيركَ، كما لم يضرك أنها ربما لم تمر من هذه الغرفة، لا تحاول التذكر إن مرت، لن تستطيع، أنتَ مجرد شجرة، تختزن الذكريات بصمت.

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها