لا أهمية للعرق الذي هدر، أعني التعرق وليس المشروب، لا أهمية لليل الذي سُمح له بالتحول إلى زمنٍ خارج الساعات الأربع والعشرين، كل شيءٍ اختلف، كل الأمور باتت كبيرة، تلك الشؤون الصغيرة التي كانت تمر كنحلة قرب الحوت الثمل، باتت كبيرة، باتت تؤرق ماضينا وحاضرنا، نعيد النظر بكل أحوال العباد من حولنا، ولا شيءَ يبدو كما كان سابقاً، ولكن الرائحة نفسها، ملمس اليد نفسه، حتى العيون التي تأبى السكوت ما زالت نفسها، وأخاف أن أقول أن الصوت ما زال نفسه، السجائر الثمينة لا تغير أصوات البشر.
هو صمتٌ، كل شيءٍ بيننا يقال، كل شيءٍ داخلي يقال، بالصمت، وتتجاهلين كل ما أقول بصمتِ آخر داخل الصمت، يتداخل صمتٌ وآخر، وتهرب من قربي آخر ملامح الطمأنينة، وأكره نفسي، وأكره رائحة السرير، وأكره وطني الذي سجنني داخل دائرة الثقة العمياء، الثقة التي تمنعنا عن فعل كل شيء، الجميع واثقٌ من قدرتي – بصفتي ابن الشعب المناضل – على الصمت، بقدرتي على الصمت متى شاؤوا، ولكن الصمت في حضرة بلاهتكِ هو كل شيء، أكره صوتي الآخر الذي لا يسمعه سواكِ، وأكره أكثر ذلك الشعر الأشعث، راحته تعلق في الأنف مئة عام، كيف أكمل كتابة وصيتي وهناك رائحة عالقة في أنفي مئة عام؟
اِقرئي، وتظاهري بأنكِ لم تقرئي، وفي النهار التالي التقي بي، قولي أن الكلام انتحار، أن الانفجار الذي بانتظار المذبحة الأخيرة لن يأتي، أخبريني أن السماء باتت مكاناً قبيحاً مليئاً بالطيور النافقة، مليئاً بطعام الطيور الذي لم يؤكل، والخبز المبلل الذي يتركه حارس الثياب كل يوم.
وليلاً سأبكي بقرب المروحة، تلك التي تخلق معضلة جديدة لا قوة لي على حلها، إن أطفأتها أشعر بالحر ورغبة بقتل فرشاة أسناني، وإن شغلتها تنتهي سجائري بسرعة، وتناديني العلبة التي تختفي عن ناظري، لا أخاف من تدخين كل سجائرها، ولا أخاف من أكل ورقها المقوى، لا أخاف حتى إن ظهرت لها أيدٍ وأقدامٌ وعيونٌ قبيحة، لا آبه إن بدأت بالصراخ وغناء الأوبرا، لا شي يخيف شاباً في مقتبل الشهوة مثل علبة سجائر تغني الأوبرا، ولكن أخاف من المرآة، أخاف من النظر إلى تلك العلبة وآثار غبار الطلع عليها، الذكريات تبدو أجمل مما هي عليه في المرآة.
اِرحلي، أنتِ وذلك الصغير إلى البعيد، إلى حيث لا تطأ أقدام البشر شعر العذارى كل مساء، وترجلي عن حصانك الطروادي الذي يخرب أرضية آمالي كل مساء، أبعدي عني الرحيق، أبعدي عني مشتقات الحليب، وأبعدي عني – قبل كل شيء – علبة الدواء الصغيرة.
جميعهن يتحولن إلى وحيدات الخلية حين أفكر بكِ، هل تعرفين – سيدتي – كم هي صعبة الحياة في كونٍ مليءٍ بوحيدات الخلية وامرأة واحدة لا يتغير صوتها؟