نحن الأسوأ

أردتُ أن أكتب شيئاً عن دمشق، فكرتُ بأن أكتب قطعة أدبية تستنفر عواطف الجميع كي يحبوا مدينتهم أكثر، ولكن لا، ليس الأمر بهذه السهولة، فكرتُ في أن أكتب إرشادات حول كيف يمكننا أن ننقذ مدينتنا من الموت، ولكن لا، لم يعد بإمكاننا أن ننقذها من شيء، اللعبة خرجت من أيدينا ولم يعد بإمكاننا أن نقرر شيء، السلاح هو من يتكلم اليوم، ونحن علينا أن ننتظر كي ينتهي من كلامه ونقوم بتنظيف الأرض من قذارته بعد ذهابه كي نجهز له المكان من أجل خطابه/معركته القادمة.

أسوأ ما في الأمر هو نحن، الذين لم يواجهوا الموت مباشرة بعد، الذين يتفرجون ويسمعون الأصوات غير عارفين ما الذي يحصل، الذين يرون الدخان قرب منزلهم فيهرولون نحو الكومبيوترات ونشرات الأخبار كي يعرفوا ما الذي حصل، وفي اليوم التالي يقولون هذا ما حصل قرب منزلي، أسوأ ما في الأمر هو نحن، الذين ندعي أننا نخاف الموت وأننا نتوقع انتهاء حياتنا في أي لحظة، ولكن في داخلنا نعرف أن الموت ليس قريباً بما فيه الكفاية منا، ولكن لا نريد أن تنتهي الحرب ونخرج منها دون إضافة بعض الدراما إلى حياتنا، نحن الذين نستغل موت غيرنا كي نرسل رسالة لحبيبتنا نقول لها “أذا أصابني مكروه، اِعلمي أني أحبكِ”، نحن الذين نكتب مئات الوصايا كل يومٍ على حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأننا جالسون تحت الأنقاض منتظرين الموت في أي لحظة، ولكن تكون الحقيقة أننا كتبنا هذه الوصايا ونحن جالسون أمام كومبيوتراتنا، نحتسي قهوتنا أو مشروبنا الكحولي، ندخن سيجارتنا، في أسوأ الأحوال تكون اللحظة الأصعب عند كتابة هذه الوصايا هي انتهاء علبة السجائر وعدم وجود المزيد من علب سجائر نوعنا المفضل عند البائع القريب، في أسوأ الحالات ستكون المأساة هي السير إلى بائع أبعد أو أن نضطر بقلبٍ مفطور تدخين سجائر من نوع مختلف.

نحن الأسوأ بامتياز، أنا الأسوأ، لأني أحب أمي، لأني أحب عائلتي، لأني أحب صديقتي الماكثة خلف البحار، ولأني أحب حبيبتي، نحن جميعاً الأسوأ، لأننا ظننا أن قرار الموت بيدنا، ولكي نختلق حججاً لجبننا قررنا أننا لا نريد الموت من أجل أمنا وعائلتنا وصديقتنا وحبيبتنا، ولكن لا، نحن لا نريد الموت لأننا نخاف الموت، فليمت الآلاف ما دمتُ سأبقى حياً، فليرحل الملايين ويهجروا وينزحوا ما دامت غرفتي تصلها الكهرباء، فلتبكي مئات الأمهات وآلاف الأخوات ما دامت أمي لن تتصل بي وتجد هاتفي الجوال مطفأ، ما دامت أختي لن تحتاج لمزيل طلاء أظافرٍ ولا تجدني كي أشتريه لها.

نحن الأسوأ وبدون منازع، أولئك الذي قاسوا الأمرين من هذه الحرب القذرة رحلوا، فقط من واجهوا الموت هم من قاسوا رؤوا الأسوأ، لن يكونوا موجودين غداً كي يتكلموا عما حصل، سيتحولون لأرقام في كتاب التاريخ، لأسماءٍ منقوشة بعناية متوسطة على النصب التذكارية، سيتحولون لصورٍ نضيف عليها الاقتباسات التي نشاء، والأسوأ هو أننا نحنُ الذين لم نكن سوى جمهورٍ يتفرج على الموت، نحنُ هم من سيتكلمون عن الحرب لأبنائهم، سنجلس ونقول مئات القصص، سنصف الأحداث وكأنها تجري أمامنا، سنخبر أبناءنا كم عانينا من هذه الحرب، سنخبرهم كم ضحينا كي يصل الزمن إليهم، ولكننا لن نكون سوى بعضٌ من الكَذَبة المنافقين.

أنا أعترف أنني لم أعاني، وأنني لم أضحِ بشيءٍ، وأعترف وأنا بكامل قواي العقلية أنني مجرد متفرج، وأن ما يحصل لا يعدو مجرد فيلم إثارة جيد بالنسبة لي، وأقسم أنني لا أعرف ما الذي يحصل أكثر من شابٍ تشيكي يجلس أمام حاسوبه في جنوب تايلاند، كل ما حصل هو في سبيل العدالة، وأنا أرى من العدالة أن أبدأ بنفسي، أن أعترف أنني لم أضحي، أن أعترف أنني الأسوأ بين الجميع، لا أريد لشيءٍ أن ينتهي كي أرتاح، فأنا لم أتعب أصلاً، وحتى في اللحظات التي أكتب فيها هذه السطور فإن ما يشغل بالي هو متى سأتمكن من رؤية حبيبتي وأصدقائي، ومتى سأتمكن من الدخول إلى قلب مدينة دمشق كي أجد صرافاً آلياً وأحصل على بعض النقود ولا أضطر للاقتصاد في تدخيني واحتسائي للكحول، وأنني أقضي من الوقت في الشكوى والندب أكثر مما أقضي في محاولة تحسين الأمور بمئات المرات.

لا، لستُ وحيداً في هذه القذارة التي أعيشها، وأنا الأسوأ!

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية لتصلك أحدث المقالات فور نشرها

فكرتين عن“نحن الأسوأ”

التعليقات مغلقة.