لقد بدأ الحزن يتسلل إلى داخلي، ليس اليأس، بل الحزن، تلك الهالة السوداء التي تحيط بالمكان المخصص لكِ في داخلي، ما زال بعض الأمل يصرخ، ما زال بعض الفرح يصرخ، ولكن الهالة السوداء تكتم جميع الصراخ، تتوغل إلى تلافيف داخلي وتسممُ كل الأجزاء الحية التي تصرخ، تغتالها جزءاً تلو الآخر، تقتل دوراتها الدموية، تقتل دوراتها الشهرية وعاداتها السرية بلا رحمة.
لستُ في طور المحاولة، فقد فشلتْ كل محاولاتي، لستُ في طور اليأس، فأنا لم أتعلم يوماً كيف أيأس، ولم تجلب علي تلك العادة – الجهل بكيفية اليأس – سوى المزيد منه، إنما أنا في طور الحزن، في طور انخفاض الدم إلى ما دون الفرح، وانخفاض سرعته إلى ما دون سرعة الضوء، أنا الآن في طورٍ تنعدم فيه الأحاسيس القديمة، تلك الأحاسيس الدنيئة العاجزة عن الإنجاب، وحده إحساس الحزن مستمرٌ، وحده ذلك الشعور الذي أتعب العقل لسنين طويلة، وملأ أوراق البشر حبراً.
اِختفي كما كنتِ معتادة أن تفعلي، تهربي من رؤيتي، أعطيني جرعة من شفتيكِ كل شهرٍ، كل ثمانية وعشرين يوماً، كي أحصل على قبلتكِ كل مرة في نفس الطور من رحلة الدماء في مهبلكِ، كي لا تختلف القبلة، أعطيني هذه الجرعة كل ثمانية وعشرين يوماً وارحلي، دعيني بعد هذه الجرعة مغرقاً في الحزن، مغرقاً في الانهيار كزجاجٍ رديء، إياكِ أن تظهري قبل أن يبدأ حزني بالتلاشي، فقدومكِ عند بدءِ اختفاء الحزنِ هو السبب الوحيد لولادته من جديد، لظهوره من جديدٍ بدمٍ جديد كطفلٍ يقفز فرحاً… أو في حالتي كطفلٍ يقفزُ حزناً.
أعطيني بعض المساحة كي أمارس حزني كما أشاء، أعطيني ماءً دافئاً، منزلاً هادئاً، وبعض الخصوصية، وسترين كيف تكون ممارسة الحزن، أو لا! لن تدري، فقد طلبتُ منكِ بعض الخصوصية، وتلك تعني في قاموسي ألا تكوني موجودة، سأصف لكِ، ربما سألتقط لنفسي بعض الصور أثناء ممارسة الحزن، وأدعكِ ترينها على انفراد، حينها ستفهمين ما هو الحزن، ما هو الهروب من الفرح عن سابق إصرارٍ وترصد وتصميم. وفي تلك اللحظة في الذات، اللحظة التي يتسلل فيها الحزن إلى إدراككِ، سيتوجبُ عليكِ أن تموتي، سيتوجب عليكِ أن تخلعي كل ثيابكِ الداخلية والخارجية والقومية، وأن ترتدي بدلاً منها كفناً ذا لونٍ برتقالي، وتجلسين منتظرة الموت، تلك وحدها هي الأمور التي أتمنى أن تفعليها، تلك الأمور هي وحدها التي ستجعل إلهكِ يبتسم، ويدركُ أنكِ فعلتِ بالضبط ما قد خلقتِ لتفعليه.
أستمع بهدوءٍ، أنتصتُ على الصوت الصادر عن عينيكِ، كفي عن الحديث، فصوتكِ بات مزعجاً، بات كآلة عبث بها الأطفال، ويحاول العازف عبثاً أن يصدر منها سيمفيونيته التي كان يرتاح من التمرن عليها حين عبث الأطفال بآلته، ظلي صامتة، فعيناكِ تقولان الآن الكثير من الأمور، رغم أنني لا أفهم اليونانية الركيكة التي تتكلمانها، إلا أنني متأكدٌ أن شيئاً مهماً على وشكِ أن يقال، شيئاً أهم من هراء الحرية الذي يدور في رأسكِ وعلى لسانكِ كل نهار.
ها هما، لقد تكلمتا، لا أدري ما الذي قيل، إنها اليونانية الركيكة من جديد، اليونانية اللعينة من جديد، حسناً، سأترجم الذي قيل كما أشاء، لقد قالتا: اِحزن، إن الله معنا!