ما الذي يجعل إنساناً يقدم على الإلقاء بنفسه في هاوية الموت؟ أي مرحلة من اليأس يصل إليها ليرى أنّ مليارات الاحتمالات التي تحملها الحياة جميعاً أسوأ من المجهول، من الهاوية التي لا قرار لها، من الرحلة التي لا عودة منها؟
الحرب أكسبتنا مناعة ضد عتبات الموت المرعبة، الخطوات الأخيرة قبل الموت قطعها كثيرون منا، وعُدنا، معظمنا عاد بعد أن نظر في عيني الموت القبيحتين. والآن، حين يتقدّم بعضنا نحو وضع حدّ لحياته لا تخيفه تلك العينين ولا تثنيه عن مسيره بخطىً ثابتة نحو الزوال، أشعر أحياناً أن الموت نفسه ينظر إلينا بشفقة، غير مصدّق أننا نهرول بهذه السلاسة وبلا أدنى مقاومة نحو الموت.
متنا جياعاً،
متنا قتلى،
متنا كأضرارٍ هامشية،
متنا في فخ الحظ العاثر يتبعنا خلف المحيطات،
متنا سكارى،
متنا مخدّرين،
متنا لحسم نقاش أو إثبات وجهة نظر عابرة،
والآن لا نمانع الموت بإرادتنا، الموت أمام طاولة باهتة تستلقي عليها رسالة ركيكة نخبر بها العالم أننا سئمنا.
يشعر لاعب كرة القدم أنه مسجون حين يدافع لوقت طويل، ونحن منذ عشر سنواتٍ ندافع، منذ عشر سنواتٍ نستميت مؤجلين حياتنا من أجل الدفاع، ليس عن مرمى أو ضد أهداف الآخرين، بل عن شعلة حياة صغيرة لم يبقى منها سوى حقيقة وجودها.
كثيراً ما يخطر لي أن ننتحر جميعاً، شعبٌ بأكمله يعلن يأسه من البشرية جمعاء ويرحل. كثيراً ما يخطر لي ألا ننزل إلى مستوى عناد البشر على عدم منحنا حقاً واحداً، وننسحب من النقاش بهدوء، وهل هناك أهدأ من الموت؟
لم نجنِ شيئاً، لم نتذوّق طعم الحرية التي كنا ننام ونستيقظ حالمين بها كحسناء فاتنة، لم نقترب من رؤية وجه الحرية ولو من بعيد. والآن، بعد عشر سنوات، آن أن نعلن يأسنا، أن نعلن إنهاكنا، أن نقول للعالم لقد خسرنا، هذا النزال الذي نخوضه لعقدٍ كامل من أجل الحياة انتهى، افعلوا ما شئتم بنا. يأسنا، استسلامنا، تقاعصنا، تواطؤنا، كل قبائحنا ليست سوى صفّارة تنبئ بفشل البشرية جمعاء. جوعنا يؤكد أن اثني عشر ألف عامٍ من التحضر بالكاد حصلت، عطشنا يؤكّد أن البشر لم يعودوا – أو يكونوا – أسرة واحدة، والآن هذه المجموعة العشوائية من الكائنات الحية التي تتشارك أحماضاً نووية متقاربة بدأت بطرد الأضعف من الحياة.
لكن لا، فنحنُ لم نولد على أسرّة من ريش، ولم نذق رغد الحياة يوماً. هذه المزرعة الكروية لم نذق من ثمارها شيئاً، لن نرحل ونتركها لأنذال الكوكب يهنؤون بها، نستوطنها أو نحرقها، نأكل ثمارها أو نسمّمها، نحيا مع الآخرين أو لا نبقي على أحدٍ منهم.