عندما نشر هيربيرت جورج ويلز (1866-1946) روايته الكلاسيكية “آلة الزمن” سنة 1895، عرّف المخيلة البشرية على فكرة السفر بالزمن التي ما زالت تثير حماستنا إلى اليوم، لكن لا يبدو عند التعمق في روايته هذه أن غايته كانت التفوّق في أدب الخيال العلمي، بل كان أكثر اهتماماً على ما يبدو بالتعبير عن أفكاره وتصوّراته لمآلات المجتمع الإنساني ونماذجه الاقتصادية.
كان يعرف عن ويلز ميوله الاشتراكية، والتي أدّت به للانتماء إلى الجمعية الفابية الداعية للاشتراكية الديمقراطية، ومن أعضائها أيضاً جورج برنارد شو. وفي روايته “آلة الزمن”، لم يدفع بالشخصية الرئيسية (التي يكتفي بتسميتها “المسافر عبر الزمن”) إلى وصف التطوّر التقني والعلمي في المستقبل القريب نسبياً، بل اختار أن يسافر بعيداً في المستقبل إلى العام 802,701، ليرى من قمة التلة التي “كانت” تحتوي منزله مستقبل البشرية، أو بدقة أكبر الأجناس الجديدة المشتقة من الجنس البشري.
يصف المسافر عبر الزمن نوعين من الكائنات “البشرية” يشكّلان فرعين لتطوّر البشر الحاليين، الأول (الإيلوي Eloi) يتألف من أحفاد النخبة الاقتصادية، والتي من خلال استغلال الفقراء أنشأت لنفسها ظروفاً معيشية شديدة السهولة والمثالية لدرجة أنهم بدؤوا بالنكوص، فاقدين الحد الأدنى من الذكاء والقوّة والتعاطف الذي يتمتع به البشر في الحاضر بسبب انعدام التحديات التي تواجههم، منتقلين إلى نظام غذائي معتمدٍ على تناول الفواكه فقط، ونظام حياةٍ مقتصر على اللهو وتبادل الزهور وممارسة الجنس والنوم في مجموعات كبيرة ليلاً.
أما النوع الثاني (المورلوك Morlock) فهم أحفاد الطبقة العاملة الفقيرة الذين قضوا وقتاً طويلاً في الظلمات لدرجة أنهم فقدوا القدرة على الرؤية في الضوء وانتقلوا إلى العيش تحت الأرض، كما انتقلوا بسبب الحرمان لنظام غذائي قائم على تناول لحوم “البشر”، ليعاملوا الإيلوي كقطعان يربونها ويقتاتون على لحمها بعد اختطاف بعضها في كل ليلة خالية من القمر، ويحافظ المورلوك على أسلوب معيشة الإيلوي الخالي من الذكاء الكافي ليتقوا شرّهم، مستغلين مهاراتهم ومعارفهم الصناعية التي احتفظوا بها، ومقدّمين لهم الأدوات والملاجئ الجماعية اللازمة للحفاظ على استمرار حياتهم السهلة.
الثروة وسوء توزيعها يداً بيد
جاءت هذه الرواية بعد مرور أكثر من قرن على اختراع المحرّك البخاري وانطلاق ما بات يعرف اليوم بالثورة الصناعية، والتي برأي ويلز لم تمتد آثارها على الجميع بالقدر ذاته، بل أفادتْ في الغالب قلة قليلة من النخب الاقتصادية على مستوى بريطانيا التي كانت تشكل مركز الثورة الصناعية، وقلة من الأمم على مستوى العالم، في ظل استغلال الدول الاستعمارية للدول المستعمرة كمصدر للعمالة والمواد الخام اللذين يشكلان وقود تقدّمها الصناعي.
هذا الترابط بين التطوّر الصناعي وعدم المساواة يبدو جليّاً اليوم رغم انتهاء عصر الاستعمار، وإن كانت بعض الدول الغنية تستطيع تحقيق قدرٍ معقول من المساواة داخل حدودها الوطنية، فذلك غالباً ما يترافق مع تراجعٍ على المستوى العالمي.
في عام 2019، آخر أعوام نمو الاقتصاد العالمي قبل جائحة كوفيد 19، بلغت حصة الفرد من إجمالي الناتج العالمي بعد تعديل الأسعار (World PPP GDP per capita) حوالي 17,633.4 دولار، ولكن هذا الرقم لا يعبر حقاً عن مستوى الدخل لمعظم سكان العالم، فحصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي بعد تعديل الأسعار (GDP per capita PPP) ينخفض في الهند إلى 6,996 دولار وفي بوروندي الأشد فقراً بين الدول التي لدينا بيانات حولها بهذا الخصوص إلى 784.9 دولار فقط، فيما يرتفع في ألمانيا إلى 55,891.2 دولار وفي سنغافورة إلى 101,649.1 دولار، بحسب أرقام البنك الدولي.
وعند قراءة مؤشر “جيني” (Gini Index) لعدم المساواة، نجد إن ارتفاع حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي بعد تعديل الأسعار يترافق لدى كثير من الدول الصناعية المتقدمة مع ارتفاع في عدم المساواة في توزيع الدخل، فمثلاً في الولايات المتحدة ارتفعت حصة الفرد من إجمالي ناتجها المحلي من 24,342.26 دولار عام 1991، إلى 62,996.47 دولار عام 2018، لكن العدالة في توزيع الدخل تراجعت، الأمر الذي يظهر في ارتفاع مؤشر جيني فيها في نفس الفترة من 38 إلى 41.4.
المورلوك يتخلون عن الفواكه
من الاختلافات الهامة بين الإيلوي والمورلوك كذلك النظام الغذائي المتطرّف الذي وصل إليه كلٌ منهما، فقد تخيّل ويلز أن الأثرياء سيصلون لمرحلة يكون فيها نظامهم الغذائي نباتياً بالكامل، بل ومعتمداً على الفواكه فيما يبدو إضافة يرمي عبرها لتعزيز الصورة المبهرجة لكائنات الإيلوي، فيما يصل الحرمان الغذائي بالفقراء/المورلوك إلى نظامٍ غذائي قائم على أكل لحوم البشر، يشكّل أساس العلاقة بين الجنسين اللذين عاينهما المسافر عبر الزمن، ولكن ما معنى أن يتجه الأثرياء لتناول الفواكه والفقراء لتناول اللحوم رغم ما يبدو عليه تناول الأخيرة من ترفٍ في عصرنا الحالي؟ وهل ثبت اليوم صدق اعتقاده بأن تناول الفواكه نتيجة طبيعية للثراء والبحبوحة؟
حسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) في تقريرها “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم” لعام 2020، فإن حوالي 8.9% (أو 690 مليون) من سكان العالم يعانون من الجوع، بزيادة بلغت 60 مليون إنسان في السنوات الخمس الأخيرة، كما إن 2.2 مليار إنسان حول العالم لم يحصلوا بشكل دوري على وجبات آمنة وكافية غذائياً في عام 2019.
ولكن هناك جانب آخر من عدم التوازن الغذائي بين سكان الكوكب يتعلق بنوعية المأكولات التي تتألف منها الوجبات اليومية، فبحسب التقرير ذاته تعتمد الدول ذات الدخل المنخفض بشكل أكبر على الأغذية الرئيسية (مثل الأرز والذرة والقمح) وأقل على الخضار والفواكه من الدول ذات الدخل المرتفع، وفي حين تشكل الفواكه والخضار 20.1% من النظام الغذائي للدول ذات الدخل المرتفع و37.7% في الدول ذات الدخل المتوسط المرتفع، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 14.6% في الدول ذات الدخل المنخفض.
كما يعجز 1.5 مليار إنسان حول العالم عن تحمّل تكلفة نظام غذائي يحقق المستويات المطلوبة من مصادر التغذية اللازمة لحياة صحية، فيما يعجز 3 مليارات إنسان عن تحمّل تكلفة أرخص الوجبات الغذائية الصحية، ومع تراجع الأراضي الصالحة للزراعة في الدول الأشد فقراً، خصوصاً الأشدّ تأثراً بالتغير المناخي والتصحر، يتجه السكّان نحو اللحوم والمأكولات ذات المصادر الحيوانية، بسبب سهولة تربيتها والحفاظ عليها، وما تحتويه من كمية حريرات كبيرة تجعلهم يحققون الحد الأدنى اللازم للاستمرار بالحياة.
الفقراء الأشد عنفاً
من أبرز مشاهدات “المسافر عبر الزمن” هو اعتماد المورلوك للعنف ضد الإيلوي من أجل معيشتهم، عنفٌ يصل حدّ التهامهم في الليالي الخالية من القمر. العصر الذي كُتبت فيه الرواية كان عصراً ريفياً بمعظمه (أكثر من 88% من سكان العالم عند نشر الكتاب) ولا يحتوي الكثير من النماذج المتكررة للأحياء الفقيرة العنيفة في المدن، إلا أن ما رآه ويلز مآلاً طبيعياً للعلاقة بين الطرفين – الأثرياء والفقراء – يبدو اليوم أشدّ وضوحاً.
هذه العلاقة بين الفقر والعنف تبدو اليوم من ميزات المدن، التي يشكّل سكانها 55.7% من البشرية في 2019 حسب تقديرات الأمم المتحدة، حيث يكون الفقراء والأغنياء على احتكاك مباشر، وأمامنا اليوم مئات المدن التي تشكّل بأحيائها الفقيرة مثالاً حياً على ارتباط الفقر والعوز المادي بالجريمة والعنف. في دراسة أجراها البنك الدولي عام 2006 حول الجريمة والعنف وعلاقتهما بالتنمية الاقتصادية في البرازيل، يرد أن اثنين من أهم ستة أسباب لانجراف البرازيليين في المدن نحو العنف “الأجور (المنخفضة) والبطالة” و”عدم المساواة والفقر”، فعدم المساواة “يضع الأفراد الفقراء (..) على مقربة من الأفراد ذوي الدخل المرتفع، والذين يملكون بضائع تستأهل الاستيلاء عليها، وهكذا يمكننا أن نتوقع الارتباط بين عدم المساواة والسطو والسرقات (..) فعدم المساواة ذو علاقة بمستويات جرائم العنف المرتفعة”.
وتوصلت دراسة مماثلة حول معدلات الجريمة وعلاقتها بالمستوى الاقتصادي في الصين إلى أن ارتفاع مستويات الفقر والدخل المنخفض مرتبطان بمستويات جرائم القتل المرتفعة، إلى جانب عامل آخر يتعلق بالهجرة الداخلية من المناطق الريفية ذات مستويات الجريمة المرتفعة، التي تؤدي لزيادة مستويات الجريمة في المدن التي تستقبلها، ويصف التقرير الفقر بأنه “أم كل الجرائم”.
هذا الانتشار للعنف المدفوع بالفقر يتم التعبير عنه أيضاً على شكل حروب ونزاعات محلية، خصوصاً في دول منطقة “مدار الفوضى”، كما يدعوها كريستيان بارينتي في كتابه بذات العنوان، وهي المناطق الممتدة بين مداري الجدي والسرطان، والتي يجتمع فيها الفقر والتغير المناخي – الناجم أساساً عن رفاهية الدول الثرية – والتسلّح اللاحق للحرب الباردة. فهذه المناطق محكومة بحسب بارينتي بالصراعات العنيفة، بسبب تراجع الموارد الغذائية النباتية، وتنافس المجموعات المحلية على الموارد الطبيعية الآخذة بالتراجع، ومن أمثلة ذلك الصراعات المتكررة بين قبيلتي التوركانا والبوكوت المتجاورتين على قطعان الماشية ومراعيها المحدودة شمال غرب كينيا، والتي يمكن أن نجد مئات الحالات المماثلة لها تتجلى فيها هذه الصراعات العنيفة على الموارد بأشكالٍ مختلفة.
شخصيات الرواية الأخرى، التي يروي لها “المسافر عبر الزمن” رحلته، لا تحمل أسماءً أيضاً، إنما تسمّى بأعمالها ومواقعها في المجتمع، فهم مثلاً الطبيب النفسي والعمدة والطبيب والمحرّر، وجميعهم ينتمون – بمقاييس ذلك العصر على الأقل – للطبقات الاقتصادية والاجتماعية العليا، ما يمكن اعتباره ربما دعوة للإصلاح من قبل ويلز لمن يبدون مستفيدين اليوم من انعدام المساواة على مختلف المستويات، قبل أن تنقلب الأمور ضدهم، ولكن في عصرنا الحالي الذي يبدو بعيداً عن انقلاب بيولوجي بهذه الحدة، ما زال الخلل الذي حاول ويلز تشخيصه في روايته مستمرّاً، وآثاره تطال مليارات البشر كل يوم.