من رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) لـِ الطيب صالح (1929 – 2009) – دار العودة 1966
وقضينا بقية اليوم في سكر. لا حفل ولا مدعوين، أنا وهي والخمر. ولما ضمنا الفراش ليلاً أردتها فأدارت لي ظهرها وقالت: ليس الآن. أنا متعبة. وظلت شهرين لا تدعني أقربها، كل ليلة تقول: أنا متعبة. أو تقول: أنا مريضة. لم أعد أحتمل أكثر مما احتملت. وقفتُ فوقها ذات ليلة والسكين في يدي. قلت لها: سأقتلك. نظرت إلى السكين نظرة بدت لي كأن فيها لهفة، وقالت: ها هو صدري مكشوف أمامك اغرس السكين في صدري. نظرتُ إلى جسمها العاري في متناول يدي ولا أناله. جلست على حافة السرير ونكست رأسي بذلة. وضعت يدها على خدي وقالت بلهجة لم تخلُ من رقة: أنت يا حلوي لست من طينة الرجال الذين يقتلون. أحسست بالذلة والوحدة والضياع.
وفجأة تذكرتُ أمي. رأيتُ وجهها واضحاً في مخيلتي وسمعتها تقول لي: إنها حياتك وأنت حر فيها. وتذكرتُ نبأ وفاة أمي حين وصلني قبل تسعة أشهر، وجدوني سكران في أحضان امرأة. لا أذكر الآن أية امرأة كانت. ولكنني تذكرتُ بوضوح أنني لم أشعر بأي حزن، كأن الأمر لا يعنيني في كثير ولا قليل. تذكرتُ هذا وبكيتُ من أعماق قلبي. بكيتُ حتى ظننتُ أنني لن أكف عن البكاء أبداً. وأحسستُ بجين تطوقني بذراعيها وتقول كلاماً لم أميز. ولكن صوتها وقع على أذني وقعاً منفراً اقشعر له بدني. دفعتها عني بعنف وصرختُ فيها: أنا أكرهك. أقسم أنني سأقتلك يوماً ما. وفي غمرة حزني لم يغب عني التعبير في عينيها. تألقت عيناها ونظرت إلي نظرة غريبة. هل هي دهشة؟ هل هي خوف؟ هل هي رغبة؟ ثم قالت بصوت فيه مناغات مصطنعة: أنا أيضاً أكرهكَ حتى الموت.
ولكن لم تكن لي حيلة. كنتُ صياداً فأصبحتُ فريسة. وكنتُ أتعذب وبطريقة لم أفهمها أستعذب عذابي. بعد ذلك الحادث بأحد عشر يوماً تماماً أذكرها لأنني تجرعت غصصها كما يتجرع الصائم غصص شهر صوم قائظ، كنا في حديقة رتشمند قبيل الغروب. لم تكن الحديقة خالية تماماً من الناس. كنا نسمع الأصوات ونرى أشخاصاً يتحركون في ضوء الشفق. لم نتحدث إلا قليلاً ولم نتبادل عبارات حب ولا غزل. دون سبب وضعت ذراعيها حول عنقي وقبلتني قبلة طويلة. أحسستُ بصدرها يضغط على صدري. وضعت ذراعي حول خصرها وجذبتها إلي فتأوهت آهاتٍ مزقت نياط قلبي وأنستني كل شيء. لم أعد أذكر شيئاً. لم أعد أرى أو أعي إلا هذه المصيبة الفادحة التي رماني بها القدر. هذه المرأة هي قدري وفيها هلاكي، ولكن الدنيا كلها لا تساوي عندي حبة خردل في سبيلها. أنا الغازي الذي جاء من الجنوب، وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجياً. أنا الملاح القرصان وجين مورس هي ساحل الهلاك. ولكنني لا أبالي. أخذتها هنالك في العراء، لا يهمني إن كان ذلك على مرأى ومسمع من الناس. هذه اللحظة من النشوة نساوي عندي العمر كله.