“تعالوا إلي يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” – متى 11: 28
الشوارع الفارغة تبتلع الرياح الباردة بنهم، لا أحدَ في الطريق سواي، أسير وأنا أكلم نفسي، أتذكر المقابلة التي قرأتها للتو، وأفكر بأنني أقل الناس اقتناعاً بما أفعل، أقل الناس اقتناعاً بما أعمل، أقل الناس نهماً بعد اليوم إلى الكلمات، ما أبيعه للآخرين هو ذلك الفائض عن حاجتي، ذلك الذي لا أحتاج، مئة رواية لا يمكنها أن تصف قبلة واحدة بشكلٍ معقول، مئة رواية لا يمكنها أن تصف شعور الوحدة كما يجب، الكلمات خادعة، تبسيط الأمور بهذا الشكل المأساوي أمرٌ مثير للشقفة، كيف سأشرح بالكلمات الحصول على ندبة على ظهركِ بسبب الوحدة؟ لا تفسير فيزيائياً لدي، ولا حادثة أتكلم عنها، بكل بساطة شعرتُ بالوحدة فظهرت ندبة على ظهري، لا أعرف مصدرها، أو على الأقل لا أعرف المصدر المادي لها، ولكنني متأكدٌ أن الشعور بالوحدة هو من تسبب بها، لا يمكنني شرح ذلك، الكلمات سخيفة حين تصف الوحدة، فالوحدة – قبل كل شيء – هي ألا تجد من تحكي له عنها، متى امتلكت الكلمات لتتكلم عنها، فقد كُسِرَتْ وحدتك.
الشوارع الفارغة تبتلع الرياح البادرة، وغرفتي ترفض أن تستقبل أي هواءٍ جديد، أجتر الهواء نفسه كل يومٍ، وأفقد شهيتي له أكثر كل يوم، أفتح الشبابيك، غير مكترثٍ بالبرد فأنا لا أبرد، على أمل أن يدخل بعض الهواء الجديد إلى الغرفة، لا فائدة، الشوارع ابتلعت كل الهواء، ومتعة التدخين في الهواء الطلق لا تقارن بقرف التدخين في هذه الغرفة، يصيبني الغثيان مرتين إلى ثلاث مراتٍ كل يوم، وغالباً أتقيأ، أتقيأ بعض الطعام والقهوة والكثير من الهواء، أتباطأ بالسير كي لا أصل سريعاً إلى المنزل، لا أحد حولي، بإمكاني إخراج عضوي والتلويح به ولن يلاحظ أحد، ربما عامل البقالية، فهو وحيدٌ طول النهار، لا سلوى له سوى مراقبة المارة، ومشاهدة الأفلام الهندية والمسلسلات السورية طول النهار، عند رؤية بقاليته أعرف أنني صرتُ في مكاني، في البقعة التي أعرفها من هذا العالم، عليّ أن أبطئ المسير أكثر إذاً، لا أريد أن أدخن على درج البناء، هناك الهواء ثقيلٌ أيضاً، ليس كهواء غرفتي، ولكنه ثقيل.
بنطالي مفتوقٌ أسفل خصيتيّ، ورغم تأكدي من ضم ساقي عند السير، ولكن لا بد له من ابتلاع بعض الرياح التي تهملها الشوارع، الهواء يدخل إلى بنطالي ولا يدخل إلى غرفتي، أتهيأ نفساً لفتح باب الغرفة، تلك الرائحة القميئة ستعود الآن إلى أنفي، ولحين اعتيادي عليها وتوقفي عن ملاحظتها، سيكون عليّ تحمل بعض الغثيان، ربما سيكون عليّ أن أتقيأ من جديد، اليوم لم أتقيأ بعد.
حين دخلتُ رأيتُ فتاة ملقاة على سريري، لا أرى وجهها، فقط شعرها وبعضاً من نهدها الأيمن، أتلكأ لثوانٍ في ذهني، أنبش ذاكرتي بحثاً عن اسمها، ليس الأمر كأن الكثير من النساء يمررن على هذا السرير، كل ما في الأمر أنني أفقد ذاكرتي، ألقي نظرة على مكتبتي الصغيرة، بالكاد عدد الكتب فيها يبلغ الخمسين كتاباً، وبالكاد أتذكر جملة أو جملتين من كل كتاب، كل ما أتذكره هو جملة واحدة من بليكسوس؛ “إنني في أعماقي مجرد تافهٍ كسول. أريد أن أطفوَ ولا أبذل إلا أقل مجهود”، اسمها رولا على ما أعتقد، أو ربما لارا، لا أدري، الأسماء التي تستخدم حرفي اللام والراء مع حروف صوتية تبدو كلها متشابهة، وفقاً لحساباتي فقد انتهى وقت نومها منذ ساعة ربما، والآن ستشعر بما حولها، اقتربتُ منها، وطبعتُ قبلة على كتفها العاري، متعمداً أن يلمس طرف إصبعي نهدها، لم أرغب بفعل ذلك، ولكنه سيضمن لي جنساً سريعاً قبل أن تذهب، الفتيات يعطين وزناً لهذه الأمور السخيفة، تريد قبلة على كتفها؟ حسناً، سأعطيها قبلة على كتفها، وما تبقى سيكون وفقاً لرغباتي.
اليوم سيكون عليّ أن أقرأ كتابي الجديد للمرة الأخيرة وأرسله لدار النشر، أعتقد أنه سيئ إلى حدٍ ما، رغم أنه أفضل من معظم ما قرأت من الروايات العربية، ولكن دار النشر والكثير من الأصدقاء يعتقدون أنه جيد، حسناً إذاً فلينشر، ولكن لا يتوقع أحدٌ مني أن أدافع عنه في ما بعد، هم يريدون أن يُنشر فليدافعوا عنه، وأنا سأنتظر فقط القارئة الجديدة التي ستغرم بي بسبب كتاب، هل تصدقون أن ما زال هناك نساءٌ تغرب بكاتبٍ من أجل كتاب؟ معظمهن في ما بعد حين آتي على ذكر الكتاب يكشفن عن جهلٍ به، بعضهن بالكاد يتذكرن عنوانه، وبصراحة أنا لا أكترث، طالما يبذلن ضريبة المجتمع لي لا أكترث، فليقرأن روايات عبير أو أحلام، فليقرأن جريدة الأخبار لو شئن، لا يهمني، المهم أن يقرؤوا بشكلٍ جيد إشارتي إلى أن وقت الجنس قد حان.
يوم أمس لاحظت الندبة على ظهري، خلعت ملابسي كلها على غير عادتي، سألتني عن مصدرها، قلتُ لها “بسبب الوحدة”، وهل يمكن للوحدة أن تترك ندوباً على الجسد؟ أجبتها “بل وتقتل أيضاً”، لا يمكنني أن أشرح لها كيف قد تتسبب الوحدة بندبة على ظهرها، أو أن تقتلها، يجب أن تقتلها الوحدة كي تفهم، الكلمات لا تجدي نفعاً.
الشوارع الخالية تبتلعني، تمتص ما تبقى من جسدي، تمتص بقايا اليقين من حولي، أبحث بين بلاطات الرصيف وبقايا جذع الشجرة التي ماتت زمناً وتركت مكانها يبتلعها المكان، يبتلعني معها، أنا الآن غصنٌ ذابلٌ، تساقط على رصيف الشارع ببطءٍ شديد، ومكث مكانه، منتظراً أن تبتلعه الشوارع والرياح، أهمس لها؛ الطقس جميلٌ اليوم، ما رأيك ببعض السير سوياً قبل أن تذهبي؟ حسناً، لكن لا كثير من الوقت لدي، لا بأس، نزهة صغيرة فقط، ترتدي ملابسها المرمية على السرير المجاور بعجل، وتطلب مني أن أشعل لها سيجارة، أفعل، وأمررها لها بعجل، أرتدي حذائي من جديد، أتناول علبة الدخان التي اشتريتها منذ قليل، نخرج سوياً من المنزل متلاصقين، غير مكترثين برأي الغرباء الذين يملؤون الشوارع، قبل أن أغادر المكان أنظر إلى نفسي في المرآة، ألقي نظرة وداعٍ على جسدي كما هو الآن، فحين أعود سيكون الشارع قد ابتلع بعضه، سأكون قد كبرتُ يوماً، أراقب وجهي كل يوم، من السهل ملاحظة الزمن يتمرغ بوجهي، كانت آثار السنين تصبح أوضح، لم يعد صفحة بيضاء عديمة الهوية كما كان حين كنتُ طفلاً، لسببٍ ما أتذكر الماضي كثيراً مؤخراً، أنظر إليها وهي تجري اتصالاً ما، أفكر في نفسي، ليس هذا المستقبل الذي كنتُ أنوي أن أصله، أفكر أنني ربما أهرب إلى الماضي المحبب بدلاً من النظر إلى حاضرٍ قبيح، حاضر منجس بالخطيئة.
تقول لي أن عليها المغادرة، الشارع يبتلعني من جديد، أسرع السير ولكن لا فائدة، كل ما أسرعت زادت سرعة تساقط الفتات من جسدي، أشعر بها تغادرني، أسمع صوت امتزاجها بحجارة الطريق، أسمعها تنحشر في تشققاته، أنا أتفتت وأنتشر كرفاتٍ مبكرة في كل المكان، الوحدة تلاشيني، الوحدة تتسبب لي بالنُدَب، وربما يوماً سأعرف ما معنى أن تقتلني.
الشوارع خالية وليست فارغة، الشوارع الآن بدأت تختزن حرارة أجسادنا من أجل الشتاء القادم، سيكون لديها الكثير من الأيام الباردة التي تقتات فيها على فتات أجسادنا، نحن مثقلي الأحمال، العاجزين عن مقاومة الحجارة الصماء، اليوم كان بإمكاني أن أظل في منزلي بهدوءٍ، لا أخرج أوأدخل، أتحمل وحدتي لحين نهاية الصيف وتوقف موسم الحصاد عند الشوارع، ولكن الوحدة تتسبب بالندوب، وتمسح بهدوئكِ الجدران، الوحدة تقتل كل شيء، حتى الرغبة بالحفاظ على جسدك، حتى الرغبة بألا تقتات عليكَ شوارع المدينة أجمع.
الشوارع ليست خالية، وليست سوى تلك الأجساد المتداعية المارة بصبرٍ وصمتٍ من الشوارع يمتصون برد الشتاء كله في نقي عظامهم، الوحدة ليست قاتلة كما تبدو، ولكنها كذلك حين تتجاوز الحاجة للإنسان إلى إنسانٍ محدد، أنا وحيد الآن بين كل الرؤوس المتطايرة من حولي، أنا كون فارغٌ يعجز عن إيجاد مركز للثقل في فوضى اللامكان، أنا مئزرٌ ملقىً على أرضية المطبخ، يتجمع الغبار حوله، ويسرق منه ذراته الصغيرة على عجل، أنا الآن قماشٌ يتلاشى.
الشوارع الخالية تبتلعني، تنهش أشلائي، تلتهم جَلَدِي، الشوارع الخالية تطالبني بالمزيد، بالركوع أكثر، بالخضوع أكثر، بتقديم الطاعة، أنا اليوم صرتُ تابعاً للشوارع، تقودني حيث تشاء، تتركني في أي ركنٍ يحلو لها أن أمكث الليلة فيه، أهمس لها بعد العشاء “غيرة بيتك تأكلني”، تبتسم، لا تقول شيئاً، تقترب مني بهدوءٍ، تتأكد من احتلال رائحة عنقها المختلطة برائحتي أنفي، تتأكد من كون الذكرى ستستمر لوقتٍ طويل.
الريح تمضغ معطفي، تلتهم الدفء المتبقي لي، أنا الآن مجرد ساقين تدحرجان جسداً منهكاً على الطريق، أنا أكثر الرجال حزناً على وجه الأرض، أنا خالٍ من كل شيء، الشوارع الخالية ابتلعت ما بقي مني… داخلي.
“ولكن في اللحظة الأخيرة وفيما كانت الجماهير ما زالت محتشدة شبكت يدها بيده وضغطت عليها”
1984 – جورج أورويل