يمكنك أن تتباهى بفصاحتك طول النهار، في الساعات الأخيرة ستكون شديد التلعثم، حين تجلس وحيداً تخوض معركة مع آلاف الكلمات التي يرفض عقلك استخراجها، السطر الواحد يكتب بنفسٍ واحد، لا وقت لاستراحات تتلف المزيد من الذاكرة، لا تتوقف، لا تتلكأ قبل أن تتأكد من امتلاء السطر حتى الحرف الأخير، أرجع رأسك إلى الخلف، تأمل ما كتبت من مسافة بعيدة بما يكفي لتعجز عن سماع رائحتها في ما كتبت، اسحب نفساً طويلاً من سيجارتكَ، تأكد من أن عقلك يتمدد ليمنع مفاصله من الصدأ، وتابع، كأتك على وشك تحديد مستقبل العالم كله، تحرك وكأنك إله يكتب تاريخ الكون بقلم، تابع حتى السطر الأخير، حتى صرختك الأخيرة.
الكثير من التفاصيل تهجم دفعة واحدة، كل مرة تحاول أن تكتب قصتها، القصة أكبر من أن تكتب كاملة، ذلك سيكون ككتابة التوراة من جديد، الكثير من التفاصيل التي لا تنتهي، ملايين الذكريات، الكثير من العبير المتروك على أطراف وزوايا المكان، يتطلب كثيراً من الوقت تلطيخ مدينة كاملة بذكرياتٍ إنسانٍ واحد، لا أحد يملك كل الوقت للتجول وحيداً في هذا الجحيم، عيناها تلاحقاني في كل مكان، تنظر إلي من كل الزوايا، في الزاوية البعيدة من الجامع، حيث تعجز حرارة الشمس البراقة عن الوصول، هناك عيناها ترتجفانِ برداً وتنظران إلي.
لا يمكنك أن توثق المحاكمات التي لم تنتهي، كما لا يمكنك أن تتركها كل هذا الوقتِ وحيدة في قفص الاتهام، هي تكره الرطوبة، وهناك الكثير من الرطوبة التي تقاوم الزمن، عليكَ أن تخرجها، إلى هواءٍ أشد نقاءً، إلى مكانٍ لا صراخ فيه، إلى مكانٍ لا إغراءات فيه، كف عن الصراخ في وجه العالم، كف عن توجيه غضبك إلى الجميع، توجه مباشرة إلى الورق، هناك الغضب يظل صامداً طول السنين، لا يكون غضباً يطفأ وينثر كالغبار فيما بعد، هنا سيصمد حقدكَ لعشرات السنين، يزلزل العالم الذي سئمت من العيش فيه، اكتب عنها لا تدعها تؤرقكَ لليلة واحدة، بل دعها تؤرق مئات آلاف آخرين كل ليلة، دع ذكراها تؤرق سكينة المدن.
تباهى بفصاحتكَ كما تشاء طول النهار، ولكنكَ حين تجالسها – أياً كانت كمية الكحول التي شربتها – ستعجز عن اختيار حرف الجر الصحيح، ستكون آلة تلعثمٍ لا تكف عن الصمت فجاءةً، بصركَ يقاطع لسانكَ، وكل ابتسامة ترميكَ بها تعني فقدانكَ لحرفٍ جديدٍ من الأبجدية، بعد ساعة من الآن ستعجز عن الكلام ربما، ربما سيكون عليكَ الغناء، تباهى بفصاحتكَ طول النهار كما تشاء، وقل للجميع أن التحرك قدماً يعنيكَ، تضخم، راكم كنوزكَ في زاوية الغرفة، مهما راكمتَ ستبقي دائماً على السرير خالياً لأجلها، تباهى ما شئتَ، فالجميع يعرف أنكَ بانتظارها، يعرف أنكَ على بعد خطوة من هدم الخيمة بمن فيها للمرة الثالثة، وتعتقد لسببٍ ما أنكَ هذه المرة، كالمرة الماضية والتي قبلها، ستنجو بفعلتك وتمضي، لا تقتل أملكَ الأخير بالمغفرة، هما اثنانِ لا ثالث لهما، إما البقاء سجيناً إلى ساعة مماتكَ، أو السقوط والموت تحطماً الآن، ما زال بدنك يحتمل القليل من التحطم، لا بأس بتجربة.
نظيرك الموجب من الكون يجلس أمامكَ، المكافئ لحالتكَ في وسط دوامة الكينونة المتشابكة المفاصل، التعاكس الشديد يحرض طاقة كافية لحبس أنفاس الشمس عدة دقائق، سيكون أمراً ممتعاً للغاية، التلامس ليس محبذاً، ربما تربيتة على الكتف، لكن لا تكترث بها، الأمور تتعقد في عقلين وثمانية أطرافٍ دفعة واحدة كل ما تلامسنا، الجسد أكثر وفاءً للذكرياتِ من اللسان، الجسد أكثر بذاءة في التذكر، يحمل عبق الماضي حوله كذبابات لا تكف عن الطيران.
ليست فكرة جيدة أن تقدم اقتراحاتك الغبية الآن، دع الزمان يقترح، دع الكون يتابع سيره، كل محاولاتك للحؤول دون سير الزمان في الجدول المصنوع له انتهت بمصرعكَ على رصيف الماضي، ليست فكرة جيدة أن توقظ الماضي المرهق، كل ما ستفعله هو أن تسرع موته، ماضيكَ مريضٌ، ماضيكَ يحتضر، دعه يودع الوجود بسلام، لا توقظه، لا توقظ توأمه الساكن بين أضلعها، لا توقظ ارتجافاً تعجز عن إيقافه.