بعض الأمور من الأفضل لها ألا تتغير، بعضٌ من الأمور أفضل حالاتها هي السكون، عدم التحرك قيد أنملة في أي اتجاه، بعض الأجزاء من حياتنا من الأفضل ألا تتغير، من الأفضل ألا يحصل فيها أي تحول، ألا تتحسن ولا تزيد سوءاً، بعض الأشياء جمالها في ألمها، وأخرى جمالها في متعتها، ولا يجوز أن يتبادلوا الأوجه، ولكن الغريب هو أننا لا نتوقف عن العبث بحياتنا كيفما تيسر.
من الأفضل أن نتفرج على حيواتنا تتغير أمام أعيننا، أو تقف جامدة أمام أعيننا دون أن نحرّك فيها شيئاً، من الأفضل ألا نحاول تغيير الأمور، من النادر أن نتمكن من تغييرها، منذ وضعتُ هذه المساحيق على وجهي، منذ وضعتُ ذلك الأنف الأحمر السخيف الذي يصدر صوتاً كل مرة ألمسه فيها، منذ باتت حياتي جحيم كل مرة أصاب فيها بالزكام بسبب صوت البوق السخيف الذي يجفلني كل مرة أمسح أنفي، خصوصاً منذ رسمتُ تلك الابتسامة الحمراء على وجهي، منذ اعتقدتُ أنني قادرٌ حقاً على البقاء مبتسماً طوال الوقت، كل يوم، كل ساعة، وكل دقيقة، منذ حصلتْ كل تلك الامور عرفتُ ألا شيء في الحياة يجب أن يتغير، لا يجب أن نظن أن التغيير ممكنٌ نحو الأفضل، التغيير – أي تغييرٍ كان – سيكون ولا بد نحو الأسوأ، حتى ولو كنا ننوي أن يكون نحو الأفضل؛ لا يهم، سيكون نحو الأسوأ مهما حاولنا.
كانت تلك الإشارة واضحة أمامي، لم أفهم منها أن هؤولاء الذي أغروني بابتسامتهم المستمرة ليسوا سوى منافقين، بالضبط كما أنا اليوم، حين سألته لماذا عليّ أن أرسم الابتسامة؟ لماذا لا أبتسم ببساطة بدلاً من رسم الابتسامة؟ قلتُ له حينها أن ذلك يشبه ملء كيسٍ بلاستيكي بالماء وثقبه كي ندعي التبول في حين أننا نستطيع ببساطة أن نتبول!!
“لا أحد يستطيع أن يبتسم طوال الوقت، لا أحد يستطيع أن يظل سعيداً طوال الوقت”
كلماته تتردد في داخلي كل ثانية الآن، رفضتُ حينها أن أرسم ابتسامة على وجهي، وابتسمتُ بدلاً من ذلك، صمدتُ أسبوعاً، وبعده كانت الإشارة التالية التي لم أتنبه منها أيضاً، مضى أسبوعٌ وأنا مبتسم، في النهاية وصلتُ إلى غرفتي، إلى حيث أغير ملابسي وأرتاح من العرض الذي يستمر أربعاً وعشرين ساعة كل يوم، ويضيفون لأجلنا – المبتسمون دائماً – ساعة إضافية كي نرتاح فيها، نظرتُ إلى المرآة، والابتسامة مازالت تعلو وجهي، كانت باردة، كانت تفتقد للفرح، كانت مجرد شفاهٍ متشنجة، مجردَ أسنانٍ لا تلمع، فقدت بريقها لشدة ما واجهت الشمس، لشدة ما افتقدت اللعاب بسبب ذلك الفم اللعين الذي لا ينغلق، لم أفهم.. لم أعرف لماذا هذا يحصل، كنتُ أظن أن الابتسام وحده كافٍ كي يكون المرء سعيداً، ولكن بدا الأمر مختلفاً.
تذكرت في تلك اللحظة بالذات كل الأمور التي لا تبعث على الابتسام، الناس الذين يموتون في بلادي كل يومٍ دون ذنب، الأصدقاء الذين فقدتهم دون سببٍ واضح، منهم من مات، منهم من سُجن، ومنهم من سافر، أسابيع قليلة تفصلني عن مرور سنتين لم أرَ فيهما أخي، تذكرتُ كل الأطفال الذين يموتون قتلاً وجوعاً وحزناً حول العالم، تذكرتُ حبيبتي التي تزوجت، وتلك الأخرى التي سافرت، وتلك التي لم تسافر ولم تتزوج وبقيت تسكن بعيدة عن بيتي مسافة عشرين دقيقة ولكنها لم تحبني، تذكرت كل الأمراض، تذكرتُ كل شيءٍ يبث الحزن في نفسي، باتت نفسي حزينة كجذع شجرةٍ في آخر شتاءٍ له.
نزلتُ الدمعة الأولى، وأنا مازلتُ مبتسماً كتمثال، الدمعة الثانية بقيت الابتسامة صامدة معها، عند الدمعة الثالثة بدأتْ شفتاي بالارتجاف، ولم يعد الأمر سهلاً، عند الدمعة الثالثة بدأت بالبكاء كطفلٍ فقد والدته، تلاشت الابتسامة، كما لو أنها لم تكن يوماً موجودة على وجهي، في تلك اللحظة دخل ذلك اللعين الذي ساعدني في البداية على دخول هذا العالم المليء بالابتسامات.
– ماذا تفعل؟
– ما الذي تراه؟
– أنتَ تبكي
– نعم، ما الغريب في الأمر
– لا يمكنك..
– لماذا؟
– أنتَ من اختار أن يكون مبتسماً دائماً.
– أعرف، ولكن ما المشكلة إن بكيتُ؟ ما المشكلة إن توقفتُ عن الابتسام قليلاً؟
– قد يراك الناس ويكتشفون أنكَ لا تبتسم..
– وما المشكلة؟
– لماذا تعتقد أنهم يحبونك؟
– لا أدري، أخبرني!
– هم يحبون أن يروا من يبتسم طوال الوقت، تعجبهم الفكرة جداً، يجدونك هناك أمامهم كل مرة يريدون أن ينسوا الحزن، يتصلون بكَ، يقولون لكَ تعال وابتسم، تعال واضحك، أنتَ رائع، ابتسم واترك الحزن لغيركَ، اترك وقتَ حزننا لغيرك.
– ولكن ماذا لو توقفتُ عن كوني ما أنا عليه الآن؟ ماذا لو عدتُ طبيعياً كالجميع أضحك أحياناً، وأبكي أحياناً، ماذا لو أردتُ أن أكون حزيناً؟
– بإمكانكَ أن تفعل ذلك ولكن عليكَ أن تتخلى عن كل شيء من حولك وتبدأ من جديد، تبدأ كل شيءٍ من جديد…
– لا أريد ذلك، أعرف كم هو صعبٌ أن أجد من يحبني كما يحبني هؤولاء المخبولين مرة أخرى
بقيتُ صامتاً لثوانٍ، مظهر وجهي بات مزعجاً في المرآة، حاولت أن أفهم هذا الوجه الجديد، أن أفهم كيف فجأة أصبح مألوفاً، حتى صوت أنفي بات مألوفاً، نظرتُ إليه من جديد، كان يمد يده لي، لم تكن فارغة، كان يحمل علبة بلاستيكية صغيرة فيها مسحوقٌ أحمر، فهمتُ ما الذي يحاول إخباري به.
“الأمر سهلٌ صدقني، ارسم ابتسامتكَ، ارسم لهم وجهاً مبتسماً، وخلف هذه الابتسامة العريضة التي سيعتقدون أنها حقيقية بإمكانكَ بالبكاء ما شئتْ، لن يروا دموعكَ”
دسستُ إصبعي في العلبة، بات المسحوق على إصبعي، نظرتُ إلى المرآة، بدأتُ برسم الابتسامة الحمراء ابتداءً من أسفل عيني، نزلتُ بها بخطٍ منحنٍ نحو فمي، صعدتُ بها من جديد نحو أسفل عيني الأخرى، كان كالسحر، أنا الآن مبتسم، لستُ مبتسماً حقاً، ولكن حتى أنا حين أنظر إلى تلك الابتسامة أصدق أنني سعيد، نزلت دمعة خامسة دون إرادتي، ولكنها لم تظهر، كان الابتسامة العريضة تغطي كل وجهي، لم تتمكن الدمعة من الظهور.
قبلني على جنب جبيني، وهمس في أذني كلماتٍ لن أنساها؛ “ابكِ الآن كما شئتْ… لن يلاحظ أحدٌ دموعكَ”