حكايتي مع هذا الشاب بدأت منذ حوالي العامين، كنت حينها خارجة من علاقة فظيعة، كنت محطمة حينها، بعد ثلاث سنواتٍ قضيتها مع ذاك الشاب اختفى فجأة لأعلم أنه الآن في لبنان – حيث موطن أسرته – وأنه مخطوب لابنة عائلة صديقة لأسرته هناك، كان ملخص الحكاية أنه قاوم رغبات أسرته طويلاً وعاش وحيداً في دمشق، ولكن بعد أن وصلت أحواله المادية لأسوأ درجاتها عاد لحضن أسرته جيدة الأحوال المالية مقدماً قائمة طويلة من التنازلات كان على رأسها أنا والإقامة في دمشق.
دعونا من حكايتي مع ذاك الشاب لنعود إلى حكايتي مع هذا الشاب، كانت أعصابي قد بدأت تتعافى من الإنهيار وأراد أصدقائي أن يخرجوني من الحزن الذي أنفقتُ عليه حينها أربعة أشهرٍ من حياتي، ذهبنا إلى حانة جديدة في أحد الأحياء الجديدة في دمشق، وكان هناك المزيد من الأصدقاء الجدد لأصدقائي الذي تعرفوا عليهم في الشهور الأربعة التي غبتها عنهم، كان واضحاً لأولئك الجدد الذين لا يعرفوني أنني كنت المستهدفة من تلك السهرة، وكانوا يعاونون أصدقائي في الترويح عني وبذل الكثير من المحاولات لجعلي أضحك، ودون أن يشعروا بات أمراً معلناً – دون أن يعلن لفظاً من أحد – أن إمتاعي هو هدف هذه السهرة، كان بين الجالسين الجدد هذا الشاب، نهض وأخذ يدي وقال لي “هيا.. أريد أن أرقص معكِ”.
لم نكن في نادٍ ليلي يشغل موسيقى صاخبة بما يكفي كي يرقص الناس، الموسيقى التي كانت تشغل هي موسيقى هادئة، أحياناً تمر بعض أصواتِ البشر ولكن لا صوت طبولٍ حتى كي يرُقص عليها، قلتُ له “على هذه الموسيقى؟”، هز رأسه بالموافقة، لم أفهم، نهضتُ معه، كنت أتوقع أن نحاول الرقص ثم نضحك ونجعل الجالسين يضحكون، ولكن حين صرنا في المساحة الفارغة قال لي “هذه الموسيقى تصلح لرقصة الفالس” وقبل أن أفهم جيداً ما قال كانت يده على خاصرتي ويدي على كتفه – هو رفعها هناك – وبدأنا نرقص، لم أكن أعلم كيف أرقص تلك الرقصة، فاكتفينا بالاقتراب من بعضنا وباتت يداه – بدل يدٍ واحدة – على خاصرتي، وأنا بحكم تعبي بعد ثلاثة كؤوس من الكحول شبكت يدي ببعضهما حول عنقه، كنت أجامله فقط، أحاول أن تنتهي الرقصة أجعله يظن أنه قد روّح عني قليلاً وننتهي من هذا الأمر.
كانت رائحته غريبة، كل شيءٍ فيه كان غريباً، ولكن رائحته كانت الأغرب، شعرتُ أنني أشم شيئاً حنوناً أكثر منه رجولياً، شيئاً يذكرني بذاك الشاب… لا! اتفقنا أن نتحدث عن هذا وليس ذاك الشاب، بعد أن خرجنا مررنا على منزله القريب من الحانة كي يعطينا معطفاً لصديقةٍ لنا كانت تشعر بالبرد ولا تريد أن تمرض، اكتشفتُ حينها أنه يسكن لوحده، وكان غريباً أن يكون لشابٍ صغير منزلاً خاصاً به في وسط المدينة، لم أكترث كثيراً بالأمر، طبعاً بعد ذلك النهار أضافني كصديقة على “فيسبوك”، وكنا نتحدث هناك كل حين، حتى جاء أحد الأيام…
كان أصدقائي يضغطون عليّ كثيراً كي أجرب الخروج مع شابٍ لا أعرفه، ظنوا أننا نناسب بعضنا كثيراً، كنت أرفض وأحاول أن أشرح لهم أنني ما زلتُ في طور الصدمة من ذاك الشاب، وقد كنتُ في سري مازلتُ واقعة في حبه رغم المجزرة التي ارتكبها بحق قلبي، تعبتُ من الحديث إليهم، خرجتُ من المقهى الذي كنا جالسين فيه، خرجتُ مسرعة لا أدري إلى أين أذهب، ولا أدري إن كان ما يزعجني هو إلحاح أصدقائي أم أنني وضعتُ من جديد وجهاً لوجه مع حقيقة أنني ما زلتُ أحب ذاك الشاب، اتصل بي هذا الشاب وأنا أسير في الطرقات دون أن أعلم في كثير من الأحيان أين أنا بالضبط، كنتُ بحاجة حقيقية لشخصٍ لا يعلم شيئاً عن قصتي، شخصاً أبدأ صداقة معه من الصفر، رغم محاولاته المستمرة للوقوف إلى جانبي دون أن يعلم شيئاً عما يجعلني على تلك الدرجة من الكآبة، حتى قبل أن يقول ما الذي يريده سألته إن كان في المنزل وقلتُ له أنني قادمة إليه، فتح لي الباب متفاجئاً، لم يكن يتوقع أنني بالفعل آتية إلى منزله.
جلس بقربي منتظراً أن أتكلم وأقول ما الذي جعلني آتي إليه بهذا الشكل المفاجئ، سألته سؤالاً ربما سمعتموه من آلاف النساء ملايين المرات “الرجال أنذال.. أليس كذلك؟”، ابتسم بإيماءةٍ أنه فهم ما هو الأمر، قال لي والابتسامة لم تمحي عن وجهه “نعم… جميعهم بلا استثناء أنذال”، أحببت هذا التعاطف اللطيف منه، رغم كونه من الواضح أنه قال ما قال ببعض السخرية، ولكن كان يكفيني أن يتعاطف معي دون أن يسألني “لماذا تتكلمين هكذا؟”، قضيت الأمسية عنده أتكلم في الكثير من الأمور التافهة، أحدثه عن الملابس التي كنت أدخر لشرائها حين كنتُ طفلة وكان أهلي دائماً يجبروني على شراء ملابسَ أخرى بالنقود التي ادخرتها، ورغم سخافة الأمور الأخرى التي كنتُ أحكيها له كان ينصت باهتمام، ويحاول مواساتي حين أبكي من أجل تلك الأمور، لم يكن يبدي رأياً أو يحاول إقناعي أنني مخطئة فيما يزعجني، كان فقط يستمع، يسألني عن بعض التفاصيل كي يفهم ما أخبره أكثر، ثملتُ قليلاً وأنا عنده ولكنه لم يحاول أن يتحرشني أو يدفعني في هذه الحالة اليائسة كي أمارس الجنس معه، بدلاً من ذلك أعد القهوة وحاول أن يجعلني أتخلص من الثمالة كي أكون صاحية حين أعود إلى المنزل.
حين خرجتُ عانقته، ولكن شيئاً غريباً حصل، لم أجده غريباً حينها رغم تكراره في الشهور التالية، ولكن الآن وجدته غريباً ورغم أنني فهمته، عانقني ويديه فوق عنقي، المكان الذي يكون عادة مخصصاً للفتاة في عناقها مع شاب، ولكن ما كان أغرب من ذلك أننا رغم علاقتنا التي توطدت جيداً في الأشهر التالية لم يكن يوماً هو من دعاني لمنزله، كنتُ دائماً أنا من يطلب أو يقترح ذلك، وربما لأني لم أختبر يوماً ان أكون مقربة من رجل بهذا الشكل كنت دائماً أخترع المشاكل وأنني أمر بمصاعب كي تكون لي حجة لأكون معه وحدنا في منزله، طوال ستة أشهر لم أخبره شيئاً عن ذلك الشاب، ولا أعلم لماذا لم أفعل ذلك، ربما لأنني لم أكن أريد له أن يشعر بأني تقربي منه هو نتيجة ردة فعلٍ من علاقةٍ فاشلة قبله، لم أرد له أن يعشر أنه مجرد جائزة ترضية عن خسارتي الكبرى… فهو لم يكن كذلك.
حين أخبرته عن ذاك الشاب كانت ردة فعله هادئة جداً، لم يغضب أو ينفعل، لم يحاول حتى أن يتأكد من أنني انتهيت من ذاك الشاب، كان ذلك غريباً بالنسبة لي، أليس يحاول أن تكون هناك علاقة بيننا؟ لا يريد الجنس على الأقل الآن وهذا واضح، ولكن كل هذا التقرب الذي حصل بيننا والتواصل الجسدي الذي كان يزيد عمقاً كل يوم ليس بهدفِ جري إلى علاقة؟
في أحد الأيام، كان اليوم الذي تمر فيه سنة على معرفتنا ببعضنا، قررتُ أنني أنا سأبادر هذه المرة، قررتُ أنني أريد العلاقة مع هذا الشاب أكثر من أي شابٍ في حياتي كلها، اشتريت زجاجة نبيذ وذهبتُ إلى منزله دون أن أتصل به، أردتُ أن أفاجئه بأنني أتذكر التاريخ الذي تعرفنا فيه على بعضنا البعض، عملياً لم أكن أتذكره ولكني استعنت بالفيسبوك لأرى تاريخ ما كتبته على صفحتي في ذلك اليوم أتذكره بدقة “والأنف يعشق قبل الأنف أحيانا… أحيانا ليس دائماً”، طرقت على باب منزله، مرة، مرتين ولكن باب المنزل لم يفتح، رننتُ الجرس مرتين، لم يفتح أحد ولكني كنتُ أسمع أصواتاً في الداخل، وكنتُ متأكدة من أنه هنا، اعتقدتُ أنه قد يكون في الحمام أو نائماً ولكن لم أهتم، أردته أن يستيقظ أو أن يقطع حمامه كي يفتح لي، فهذه العلاقة انتظرت أكثر من اللازم لتبدأ، ولا تحتمل الانتظار أكثر من ذلك ليومٍ واحدٍ حتى.
فتح ليَ الباب وكان الارتباك بادٍ على وجهه، كان يتردي بنطالاً قطنياً قصيراً وقميصاً داخلياً فقط، “أهلاً..”، ماذا؟ أهلاً فقط؟ لم يتحرك جنباً حتى يسمح لي بالدخول حتى، لم أصدق حينها كم من الممكن أن يكون الشباب أنذالاً.. “ألن تدعوّني للدخول؟”، ازداد ارتباكه، رأي زجاجة النبيذ في يدي وبدا الأمر غريباً بالنسبة له، “نبيذ؟ ماذا هنالك؟”، حسناً، لقد خرب المفاجأة، ولكن لن يثنيني شيءٌ عن قضاء هذه الليلة عنده، “اليوم تمر سنة على تعارفنا، أردتُ أن نحتفل بهذه المناسبة.. لماذا بالضبط أنا واقفة عند الباب؟”، استرق نظرة إلى داخل المنزل دون أن يفتح الباب بما يكفي لأرى ما الذي يوجد في الداخل، خطر لي أن تكون هناك فتاة في الداخل، بشكلٍ أو بآخر كنتُ على حق..
– هناك أشياء لا أريدك أن تريها في المنزل، لو تعودين بعد ساعة فقط..
– هل البيت غير مرتب؟ كف عن هذا الهوس بالنظافة، ليس أمراً مشيناً أن يكون في منزلكَ بعض الفوضى.
– لا ليس الأمر كذلك، صدقيني لن تكوني سعيدة، عودي بعد ساعة فقط.
– لا لن أعود… سأدخل الآن وأرى ما هذا السر الرهيب الذي تحاول إخفاءه، لا أصدق أنكَ ما زلتَ تخفي عني أسراراً.
دفعته جانباً ودخلتُ، وأنا على وشك الوصول إلى غرفة المعيشة التي هي غرفة نومه في الوقت نفسه كان يقول لي “لقد حذرتكِ.. لقد حذرتكِ”، فتحتُ الباب، كان بالفعل سراً لا أريد أن أعرفه، كان هناك شابٌ عارٍ، يغطي القسم السفلي من جسمه بغطاء السرير، نظر إليّ خائفاً، كان صوت أنفاسِه واضحاً مع كل الصمت الذي سيطر على المكان، هذا الشاب كان صامتاً يستنطق ردة فعلي، والشاب الذي على السرير كان في نظراته توسلاتٌ للرحمة، كأنه بولونيٌ يهودي ينظر إلى جندي نازي دخل على منزله في الليل، وقعتُ زجاجة النبيذ على الأرض، شعرتُ بدوارٍ لم أعلم إن كان سببه رائحة النبيذ التي ملأت الهواء أم انهيار العالم من حولي من رحيل هذا الشاب عن دفتر أحلامي، لم أرَ هذا الشاب منذ ذلك النهار، ذاك الشاب الذي عرفته لسنة واحدة ففط، الشاب الذي تعلمتُ أنه يوصف بالمثلي، مع شدة على حرف الياء.
الله واكبررررر