أصدرت مجموعة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين رسالة مفتوحة يدعون فيها للحد من السلوكيات الإقصائية والمقيّدة للحريات التي ظهرتْ في الآونة الأخيرة مع اندلاع الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي امتدت النقاشات الناجمة عنها إلى عدة مواضيع أخرى. 152 كاتباً وصحفياً وأكاديمياً وغيرهم وقّعوا على هذه الرسالة، أبرزهم نعوم تشومسكي وج. ك. رولينغ وسلمان رشدي ومارغريت آتوود، إلى جانب عدة أسماء عربية مثل الكاتب الجزائري الفرانكفوني كمال داود والكاتب السوري خالد خليفة، يمكنكم الاطلاع على نص الرسالة الأصلي باللغة الإنجليزية والقائمة الكاملة بالأسماء التي وقعت عليها على موقع مجلة “هاربرز” التي نُشرت هذه الرسالة عبرها.
أقوم بترجمة وإعادة نشر هذه الرسالة لأنها تنطبق إلى حدٍ كبير على واقعنا العربي – الافتراضي على الأقل – في ظل ردود الفعل المبالغ بها في الآونة الأخيرة، خصوصاً ردود الفعل على وفاة الناشطة سارة حجازي وعلى موقف العديد من السوريين من قانون قيصر من قبل الصحفيين والناشطين الحقوقيين الذي أظهروا سلوكاً إقصائياً زاد أحياناً على نظيره لدى من يدّعون محاربتهم، ووصل حد التشهير بالبعض والدعوة لقطع أرزاقهم.
على عكس ما ينص عليه ترخيص المشاع الإبداعي الذي أنشر تدويناتي وترجماتي وفقاً له، أترك للجميع حرية نقل هذه الترجمة دون ذكر مصدر الترجمة، مع ضرورة ذكر مصدر الرسالة المذكور أعلاه.
نص الرسالة:
رسالة حول العدالة والنقاش المفتوح
تواجه مؤسساتنا أوقاتاً تتعرض فيها للمحاسبة، والاحتجاجات العارمة من أجل العدالة العرقية والاجتماعية آخذة بالدفع نحو مطالب تأخرت جداً بإصلاح الشرطة، إلى جانب مطالب أوسع بمساواة وشمول أكبر في مجتمعنا، ليس أقلها التعليم العالي، والصحافة، والأعمال الخيرية، والفنون. ولكن عملية المحاسبة هذه كثفت مجموعة جديدة من السلوكيات الأخلاقية والالتزامات السياسية التي تميل لإضعاف معاييرنا الخاصة بالنقاش المفتوح والتسامح مع الاختلافات لصالح التطرف الأيديولوجي. فيما نثني على التطور الأول، فإننا نرفع أصواتنا كذلك في وجه التطور الثاني. تكتسب القوى المعادية لليبرالية المزيد من القوة حول العالم ولديها حليف قوي هو دونالد ترامب، الذي يمثل تهديداً حقيقياً للديمقراطية، ولكن لا بد من عدم السماح للمقاومة بأن تتصلب داخل شعاراتها أو عقيدتها أو قسريتها الخاصة – والتي يسيء ديماغوجيو اليمين استغلالها أصلاً. لا يمكننا تحقيق الشمول الديمقراطي الذي نريده إن لم نرفع أصواتنا ضد المناخ غير المتسامح الذي يتشكل لدى جميع الأطراف.
يتعرض التبادل الحر للمعلومات والأفكار، شريان حياة أي مجتمع متحرر، يومياً للمزيد من التضييق، وفيما نتوقع ذلك من اليمين الراديكالي، فإن عقلية الرقابة تنتشر بشكل أوسع في ثقافتنا: عدم التسامح مع وجهات النظر المقابلة، ورواج ثقافة التعيير والنبذ، والميل لتمييع المسائل العامة المعقدة ضمن الأحكام الأخلاقية المطلقة العمياء. إننا نؤيد قيمة الخطاب المضاد المندفع وحتى اللاذع من كل الأطراف. ولكن الآن أصبح شائعاً أن نسمع مطالب بالعقاب الخاطف والحاد في وجه أي تجاوزات للخطاب والأفكار. والأمر الأكثر إشكالية هو أن القادة المؤسساتيين، ضمن الجهود النابعة من الهلع للحد من الأضرار، ينفذون عقوبات طائشة وغير متكافئة بدلاً من الإصلاحات المدروسة، حيث يتم طرد المحررين لإعدادهم مواد جدلية، ويتم سحب الكتب بسبب ادعاءات عدم الأصالة فيها، ويُمنع الصحفيون من الكتابة حول مواضيع محددة، ويتم التحقيق مع البروفسورات لاقتباسهم من الآداب في صفوفهم، ويُطرد الباحثون لتوزيعهم أبحاثاً محكّمة، ويتم استبعاد رؤساء المؤسسات المختلفة بسبب ما هو أحياناً مجرد أخطاءٍ خرقاء. أياً كانت الجدالات حول كل حادثة معينة، النتيجة هي التضييق المطّرد لحدود ما يمكن قوله بدون التهديد بالانتقام. إننا ندفع من الآن ثمن ذلك على شكل نفور من المخاطرة بين الكتاب والفنانين والصحفيين الذين يخشون على لقمة عيشهم إن خرجوا عن الإجماع، أو حتى إن افتقدوا للحماسة الكافية عند القبول به.
هذا المناخ سيؤذي في نهاية المطاف أكثر العوامل جوهرية في عصرنا. تقييد النقاشات بهذا الشكل، سواءً حصل على يد حكومة قمعية أو مجتمع غير متسامح، سيؤذي بشكل متواصل من يفتقدون للنفوذ وسيجعل الجميع أقل قدرة على المشاركة الديمقراطية. هزيمة الأفكار السيئة تحصل عبر الكشف عنها والجدال والإقناع، وليس عبر محاولة إسكاتها أو السعي لإقصائها. نرفض الادعاء الزائف بضرورة الاختيار بين العدالة والحرية، واللتين لا يمكن لإحداهما أن توجد دون الأخرى. نحن بحاجة ككّتاب لثقافة تترك لنا مساحة للتجريب، والمخاطرة، وحتى ارتكاب الأخطاء. نحن بحاجة للحفاظ على القدرة على معارضة الإيمان الجيد بدون عواقب مهنية أليمة، وإن لم ندافع عن الشيء الذي يعتمد عليه عملنا بالذات، فلا يجب أن نتوقع من العامة أو الدولة أن تدافع عنه بالنيابة عنا.