المقال المنشور سابقاً في جريدة السفير، يعاد نشره بالاتفاق مع كاتب المقال.
ازداد تداول مصطلح “السكان الأصليّون” بشكل ملحوظ في السنين الأخيرة في سياق الحديث عن هجرة وتهجير وقتل المسيحيين في العراق (ومؤخراً سوريا)، وتناقص أعدادهم من جراء الحروب المستعرة، والتطهير العرقي الذي مورس ضدهم، كما ضد غيرهم، على يد الجماعات والميليشيّات المسلّحة، وآخرها داعش.
وقد يتفهم المرء الدوافع وراء استخدام هذا المصطلح بالذات، كرد فعل للدفاع عن حق وتاريخ وجود المسيحيين في العراق وسوريا تاريخيّاً. خصوصاً أمام خطاب تكفيري تجريفي وعنْف كاسح يجرّدهم من انتمائهم وحقوقهم وأملاكهم، ويربطهم بجغرافيا أخرى (الغرب النصراني الكافر) ليدفعهم، في نهاية المطاف، خارج الجغرافيا والتاريخ. لكن للمصطلحات تواريخ وجذور ولاستخدامها تبعات خطيرة، أحياناً.
مصطلح” السكان الأصليون” إشكاليّ جداً إن لم يكن خطيراً. فهو مستورد من سياق تاريخي آخر. وقد استخدم ومازال يستخدم لوصف السكان الأصليين في بلدان الاستعمار الاستيطاني التي تشكّلت، في العصر الحديث (أو الحديث المبكّر) بقيام جماعة من قارّة أخرى باستعمار بلد آخر وذبح معظم سكانه الأصليين، و/أو تهجيرهم (أستراليا، الأمريكتين، جنوب إفريقيا، نيوزلندا، وفلسطين). مهما يكون رأي المرء في ما يسمّى بالفتوحات العربية-الإسلامية، وبالعنف الذي رافقها، فإنها لم تكن استعماراً-استيطانياً.
والجدير بالذكر أن استخدام المصطلح أعلاه لوصف المسيحيين في بلاد المشرق بدأ قبل عقود في الولايات المتحدة وأستراليا بالذات. ومن قبل بعض غلاة القوميين من الناشطين/المهاجرين. وكان هؤلاء قد تمثّلوا خطاباً ولغة سياسيّة نابعة من سياق تهيكله ثنائيّة المهاجر/الأصلي native. وكان استخدام المصطلح استراتيجيّة فعّالة في استمالة وإقناع بعض الساسة بتبنّي ”القضيّة“ لأنه يرسّخ سرديّة بسيطة تختزل تعقيدات الوضع بالاعتماد على استشراقيّة فجّة يكون فيها “السكان الأصليون” ضحايا في شرق إسلاميّ دائم العنف، طارد للأقليّات، ينتظرون خلاصاً يقدّمه أو يساعد في تقديمه الغرب المتحضّر.
لا شك أن الدولة العراقية، مثلاً، اقترفت جرائم شائنة ضد مواطنيها، بدءاً من مذبحة سيميل ضد الآشوريين عام ١٩٣٣ وغيرها، لكنها، مع ذلك ليست، بالنسبة لمواطنيها المسيحيين، من غير الآشوريين، دولة استعمارية-استيطانية. ولكن ما الضير في استخدام المصطلح؟
مصطلح “سكان أصليون” يفترض تراتبية معينة وسرديّة وبالتالي تصبح جماعة ما أصليّة أكثر من غيرها وجماعات أخرى “أقل أصليّة” أو “ضيوفاً” (هذا ما كتبه، مثلاً، بعض المثقفين العراقيين بعد احتلال الموصل في مزيج من عاطفيّة مفرطة وكسل تاريخي). وهذا هراء. فلن ينتهي الجدال والسباق حول الأكثر أصلية. يفترض بنا أن نتفق أن كل من هو في العراق عراقي بغض النظر عن الديانة أو المذهب أو القومية أو العرق. سواء كان عمر الرموز والآثار والسرديات التي تتبناها الجماعة آلاف السنين أو ١٠٠ سنة!
وكل هذا دليل آخر على أن مفهوم المواطنة هو البديل الوحيد للحروب الأهليّة. قد يبدو كل هذا الكلام الآن، في زمن الطائفية والأقلمة، ترفاً. لكن إذا كنت تريد أن تعبر عن حزنك لتهجير أو قتل أي عراقي/سوري أو عراقية/سوريّة، كائناً من كان، يفترض أن يكون السبب أنه إنسان مثلك ومثلي، ولد ويعيش في مكان كان يظنّه وطناً، وله حق الوجود فيه بمحض الولادة، بغض النظر عن التاريخ (الذي تعاد كتابته ويزيّف باستمرار) والهويات المتخيّلة والمتغيّرة. الانتماء هو انتماء الوجود في المكان!