من رواية (الشطار) لِـ محمد شكري (1935 – 2003) – دار الساقي (الطبعة الرابعة) 1992
لا أحد يأتي بعد أن يجيء الأخير. ربما هي السبب في مجيئي الأخير… لقد تركتها تغتصب فيّ ما كنت أريد أن أعرفه فيها. ممن آخذ حكمة اليوم؟ الأذكياء جنوا أو هم يهذون في الشوارع والأحقون بالبقاء هاجروا وكبلتهم الغربة بسلاسلها الثقيلة. لقد بدأ سفرهم قبل أن يهاجروا. رأيتهم يشربون الكؤوس الأخيرة. حفنة من تراب الوطن رأيتُ أحدهم يحملها في كيس صغير كحرز. ربما سيسمد بها بذوراً ما في غربته القهرية! قد يغرس فيها جذور النعنع. إنها مشيئة البؤس في وطنه. كان يقول لي بينيتس في أصيلة: ستأتي الأزمنة الرديئة. لكن متى كانت هناك أزمنة جميلة؟ أقول له.
لمن هذه الأنغام الحزينة التي أسمعها من بعيد؟ إنها للراحلين في الجمارك وهم يزحفون واقفين. بطء زحفهم يذلهم حتى نخاع العظام. إن مذلة الوطن أقسى عليهم من مذلة الغربة. سمعتُ أحدهم يتنهد ويقول: إن هذا الليل سيدفننا هنا. كأنما ذكرى الليالي الماضية، المرعبة، تنبعث كلها من ليل هذا العبور. لقد تعودتُ على الشمس والبحر. كيف لي ببحر دون شمس! الضباب، إذا زارنا، نندهش. هل فقدت السماء لونها المرآتي فوق أرضنا؟ الشمس تضحك لنا قبل أن تبسم للآخرين، لكنهم حجبوها!
كفى من هذا الهراء، تعلم كيف تحلم بالعوالم الأخرى، كما أصحابها يحلمون بها. لا تغمض الأشياء. كثيراً ما يتغذى الصالح بالطالح. وجوه لا توحي لك بأي إحساس تحبه، لكن لا بد من رؤيتها.
لقد سحقتنا الحانات الجديدة في هذه المدينة. وجوه لا توحي لك إلا بالمشاكسة والغباء. أصحابها أفظع من زبائنها. يا حسرة على مدام ترودي، والصرصار، والباراد. لم يكن أحد يتسول فيه كأسه. كان مثل “الشجرة التي تغطي كل الغابة”. كان المركز، أما اليوم فحانات ممسوخة وأربابها أمسخ منها.
ساعة الرغبة تقترب. قد توحدنا لكنها ما أكثر ما تبعدنا حين نريد أن نلتقي أو نتماسك، على الأقل. أحسني، أحياناً، مثل ثور المصارعة الذي يخرج من نفق الظلام إلى النور لينطح الهواء، ويشحذ أماميتيه وخطمه في الرمل مبدداً صدمته قبل أن يبدأ صراعه مع قدره المحتوم. إنه العيش في زمن الأخطاء. لقد تلوثتُ بليل الشارع. حتى مجانينه اللطفاء تصومعوا. صاروا عقلاء! استطالت لحاهم! ليس بدعةً في حياتهم لكنها استسلام. ليل البيت البعيد، هذا ما أشتاقه. ليل الحنين إلى الشارع. ليل الحلم بالأسفار البعيدة.
أن أغترب ولو في ضاحية من المدينة. أتربي وأغبري يا طريقي الملساء. كل الأمسيات والصبحيات تنتظرني هناك.