يعجز المدخنون عن الإقلاع لأن ليس هناك ما يبلغ مرونة الدخان في حياتنا، كل ما حولنا جامد أو سائل يندلق فور إفلاته، كذلك الكتابة أيضاً، لا يمكن لمصور أن يرسم فيلاً في جسد نعامة، لا يمكن لمؤلفٍ موسيقي أن يصنع لحناً صامتاً تماماً يستمر ساعةً كاملة دون تكرار علامة واحدة، ولكن أنا كتبتُ كل ذلك للتو، وما بين خمسِ وخمسون نقرة على لوحة المفاتيح كافية كي أجبل ما أشاء، أنا إله كلي القدرة والجبروت لا حاجة له لتدريب يديه على الخلق قبل الشروع به، كل ما يحتاجه هو المخيلة.
أنا شبقي نحو كل ذرات الكون التي كانت ولم تكن، أنا الروح الوحيدة التي تطفو فوق صمت الكون القاتل، فوق حرارته الخانقة، فوق كل عشاقه يتبادلون القبل، وكل الوحيدين المتمترسين خلف صمت جدرانهم. أغفو وحيداً على الجانب المظلم من القمر، وأستيقظ عند الكسوف لتجفيف ملابسي.
بإيقاع سريع تبدأ النصوص جميعاً، جملتان أو ثلاث تندفع كعطاس، ثم صمت، إلى أين؟ كل هذا الفراغ يحدق بي كوجوهٍ مترقبة، أعود بإيقاعٍ أبطأ، جملي تصبح أقصر، أصابعي تتوق للضغط على مفتاح الفاصلة، الفاصلة المنقوطة تحاصرني، وأنا كعالق تحت الماء أحبس أنفاسي عنها، أرفع يدي قليلاً لأرقص مع الموسيقا، وهائنذا؛ أترك فاصلة منقوطة تمر فيندفع الماء إلى رئتيّ.
مشاهد الكتابة في الأفلام مغرية، ولكنها… لا تقول شيئاً، الكاتب ليس عازف بيانو كي تكتفي بمشاهدته ينقر على مفاتيح حاسوبه أو آلته الكاتبة، وتبتسم برضاً قائلاً أنه فن ممتع لمن يمارسه ولا بد… عليكَ أن تتسرب إلى الكواليس، أن تتابع ما يحصل بعد المشهد الذي يبدو فيه الكاتب وكأنه يراقص لوحة المفاتيح؛ تصدعات جدرانِ رأسه تحت ضغط الانتفاخ المفرط للمخيلة، انتفاضاته تحت وطاة ذكرى الخيالات الزائفة، لا ترى كل ذلك، تتابعه يصيب المفاتيح دون النظر إليها بإتقان شديد، ولا تسأل أي مياه آسنة تندفع فجأة من رأسه وقلبه إلى أصابعه، ما تراه رقصاً على المفاتيح، ليس سوى جريحاً يتوسل المساعدة من الكلمات، مئات الجرحى يقطرون من مخيلتي عبر أصابعي، يلتصقون بمفاتيح حاسوبي، يجفون عليها كمرق كثيف، يجف كل من ماتوا في مخيلتي على لوحة المفاتيح حتى يغدوا غباراً تنثره مروحة المعالج.
أي جنون! أي حماقة أن تتسلق هذا الجبل الشاهق المدعو كتابة، بالكاد فارقتُ سفحه وأشعر برئتي تتمزقان إرهاقاً، أي حياة بائسة! أي حماقة!
ما أن أبدأ بالكتابة أنسى أي يومٍ من الأسبوع هو هذا، أنسى أي ساعة هي، أحياناً أنسى ما الذي يحصل أصلاً، حين تزداد سرعات اندفاع الصور من رأسي إلى سطوري الضيقة، أفقد دور الوسيط بينهما، إرادتي تصبح مجرد زر إطفاءٍ أو تشغيل للكتابة التي تعمل بمجرد تشغيلها كجزازة عشبٍ، أما أنا فمجرد متفرجٍ، أراقب بشوق قارئ الجملة التالية، والفقرة التالية، حين يتلكأ – ذلك الآخر الذي يكتب – في الحروف الأولى من الكلمة، أحاول أن أخمنها، وغالباً أخطئ.
كي تكتب، اغرق حتى حاجبيكَ… أو مت في الصباح.
ملعون عصر الإنترنت، أن تهدر كل هذه السطور التي تخرجها من داخلك بألمِ ولادة، أن ترمي بها للسيرك العنكبوتي الكبير، أن تقبل بأداء رقصة المهرجين بدلاً من تتويج كلماتك على عرشٍ من ورق، ولكن… ما أن تبدأ بكلماتك الأولى، تلك التي ترتسم أمامك بالتصوير البطيء شاعراً أثناء كتابتها بثقل اللحظة، حتى تفقد القدرة على النجاح بأي شيءٍ على الإطلاق سوى الحصول على جرعتك التالية من إدمانك الجديد، تشعر بانقباضات في مفصل ذراعك اليمنى ريثما يترك النص الذي تنشئ أثره على دمك.
ورغم كل الصور؛ حين أغمض عيني يزاحم وجهها كل المخيلة… ولمجرد رؤياكِ أعلن نفسي ملكاً مطلقاً على كل المخيلة.