من رواية (الجياد الهاربة) لـ يوكيو ميشيما (1925-1970) – ترجمة: كامل يوسف حسين – دار الآداب (1991)
وكان يحدث نفسه ضاغطاً على أسنانه: “لِمَ؟ لِمَ؟ لِمَ لا يُسمح للناس بالقيام بما هو الأكثر جمالاً، بينما الأعمال القبيحة الوضيعة، الأعمال التي تستهدف الكسب يسمح بها بملء الحرية؟
وحين لا يشك في أن أسمى الأخلاق تقبع مختفية في نية القتل فحسب فإن القانون الذي يحظر هذه النية يطبق بالاسم المقدس لجلالة الامبراطور، الشمس الملتفة بالكمال. وهكذا فإن أسمى الأخلاق تُعاقب من قبل من هو تجسيد لأسمى الأخلاق. منذا الذي يمكنه أن يضع جنباً إلى جنب عناصر هذا التناقض؟ أيمكن أن يكون لجلالة الامبراطور أي علم بمثل هذه الحيلة المروّعة؟ أليس هذا نظاماً أنفق الافتقار البارع للولاء الكثير من الوقت والجهد لاستنباطه؟
لست أفهم. لست أفهم الأمر على الإطلاق. إننا بعد أن ننجز القتل لن يُخلف أحدنا عهده بأن ينتحر في الحال. وهكذا فإنه لو أمكننا القيام بما عقدنا العزم على أدائه فإنه ما من غصن واحد، ما من وريقة شجر واحدة في أجمة القانون المتشابكة، كان سيمس طرف ردن أو حاشية الكيمونو الذي يرتديه أحدنا، كنا سننسل على نحو رائع من خلال الأجمة ونمضي مندفعين إلى سماء عليين المؤتلقة. وكذلك كان الحال بالنسبة لعصبة الريح الإلهية. وإني لأعرف أن أعشاب القانون المشتبكة لم تكن قد نمت بهذه الكثافة في العام السادس من عهد ميجي. وما القانون إلا تراكم محاولات لا تعرف الكلل لسد الطريق في وجه رغبة الإنسان في تغيير الحياة إلى دفق فوري من الشعر. ومن المؤكد أنه لن يكون من الصواب ترك كل شخص يستبدل حياته لقاء بيت من الشعر مكتوب بنثار من الدم. ولكن كتلة البشر التي تفتقر إلى البسالة تنفق حياتها دون أن يقدر لها قط الشعور بأدنى لمسة من هذه الرغبة. ومن هنا فإن القانون موجه بحكم طبيعته إلى أقلية صغيرة من البشر. النقاء الفذ لقبضة من الرجال، الإخلاص المترع بالعاطفة الذي لا يعرف شيئاً عن معايير العالم… القانون نسق يحاول التدني بهما إلى “الشر” على المستوى الذي تقع عنده حوادث السطو والجرائم العاطفية. إنه شرك محكم ذلك الذي ترديت فيه، لا لشيءٍ إلا لأن أحدهم أقدم على اقتراف خيانة!”
نفذت طعنة صفير قطار لنقل البضائع يجتاز محطة إتشيجايا أفكاره مخترقة إياها. وحملت ذهنه صور رجل هيمن عليه انفعال بالغ الطغيان، إلى حد بدا معه ذلك الرجل وكأنه يتدحرج على الأرض ليطفئ كيمونو مشتعلاً. وقد التفت الصرخة التي تمزق نياط القلب، وقد أطلقها الرجل المتردي في السواد، بفيض من جزئياتها النارية، وتألقت حمراء بفعل وهجها المتقد.
غير أن صفير هذا القطار قد اختلف عن صفير السجن بدفء الحياة الزائف الذي ينتحله. فهذا الصوت، وعلى الرغم من أنه يدوي ملتوياً من جراء العذاب، إلا أنه ينبض بحرية لا حدود لها، ويتيح وصولاً هيناً إلى المستقبل. جزء آخر من البلاد، يوم آخر – حتى إطلالة يكسوها الصدأ لصباح أشهب يشف الألم وجهها، تتجلى فجأة في صف المرايا الذي يعلو أحواض الغسيل على رصيف محطة ما، لم تكن كافية لإبعاد الجاذبية القوية التي تحظى بها الغرابة التي يحملها الصفير على جناحيه.