الأفضل أن تقرأ، نوبات متابعة ما يجري لن تنفع ولن تفهم شيئاً، الكلام لن يضيف شيئاً لأي شيء، منديل ورقي يُشكر لثواني تنظيف القذارة ويرمى به، الأفضل أن تقرأ… وحين تسأل عما حصل في هذه السنين لا تجيب، تقرأ فقط. روايات رديئة، روايات جيدة، كتب عن كيف تطور الإنسان ليصبح هذا الشيء الغريب، المهم أن تقرأ، كل هذه الحرب يمكن اختصارها بصفحة ونصف الصفحة، كل المآسي والتضحيات، كل الحزن ولا جدوى الزمان، ستختصر قريباً جداً بصفحة ونصف الصفحة، بملخصٍ صغير جداً يشرح للفضوليين ما حصل في هذه البقعة الصغيرة من الأرض.
في ضاحيتي، كان هناك لفترة طويلة جامع واحد، ورغم أنه حجب عن شرفتي مساحات شاسعة من الرؤيا، إلا أنه كان حدثاً لطيفاً. حضرتُ افتتاحه ببنطالٍ قصير جداً افتضح أمري، وبقيت حتى أواخر طفولتي أعرج عليه كل حين وآخر، لأغتسل أو أشرب الماء، أنضم للمصلين أحياناً وأقلد حركاتهم، وأتمتم بما أعرف من صلاتهم بانتظار صديقي الذي يغتسل أو يشرب. يؤذن خمسة مراتٍ في اليوم، أربعة منها مزعجة تماماً لقربه مني، لا أستطيع بسببها أن أتم اتصالاً أو أشاهد مسلسلاً أو فيلماً، بالكاد أسمع نفسي. أذان الفجر وحده كان ممتعاً، حتى إنني لا أتخيل بدء نهارٍ دونه، كنتُ أقضي وقتي على الشرفة، أتفرج على أضواءه تشتعل كلها دفعة واحد كمركبة على وشك الإقلاع، وكل مرة أحاول حفظ الأدعية الحزينة التي تسبق الصلاة، عبثاً أتذكر سوى بيتٍ واحد، “أشكي إليكَ ذنوباً أنتَ تعلمها – مالي على حملها صبر ولا جلدُ”، كنتُ أبتسم، وأتخيل أن المؤذن الذي يرتل الدعاء لا يفعل ذلك مدفوعاً براتبه، إنما بحزنٍ دفينٍ أوقظه قبل موعد الصلاة، وقرر التخلص منه قبل أداء واجب الطاعة.
كان الصمت مطبقاً، وصوت الأذان يخترقه كنهر يحفر مساره للمرة الأولى كل يوم، كان المصلون يستيقظون، وبعد أن يفتحوا عيونهم يغمضونها من جديد، لثانيتين أو ثلاث، يتأملون الصمت الذي يحيط بصوت المؤذن كفرو دب قطبي، يبتسمون وينهضون، لا وجوه متجهمة، لا أعين نصف مغمضة بشرّ. الآن أصبح لدينا ثلاثة جوامع، والأذان الثلاثي عديم التناغم يدفعني لتخيل ثلاثة رقباء غليظي القلوب، يحيطون بالمصلي ويضربون بعصي غليظة على أطراف السرير كي يستيقظ، أثناء الوضوء يصرخ أحدهم في وجهه، “أتعتقد أن بلادتك هذه ستدخلك الجنة؟”. لا أدري إن كان السبب هو المسلمون في الطرف الآخر الذين قصفوا قبة أقدم الجوامع ومئذنة الثاني دون أن يصورها أحد ويستنكر، أو هو الدخان الرديء الذي اضطررت لتدخينه بالتزامن مع ظهور المئذنتين الجديدتين.
الآن، في ولادات الصباح المبكرة، أكتفي بالقراءة، وحين يبدأ نداء الرقباء إلى الصلاة أضع إصبعي حيث وصلتُ في القراءة وأنتظر نهاية الأذان. محاولة التأقلم مع ثلاثة مؤذنين لن تنفع، ولن أفهم شيئاً بعد كل الإضافات التي ظهرت فجأة إلى دينٍ لم أعرف عنه صغيراً سوى وعود الأصدقاء بدخول الجنة مباشرة إن دخلتُ فيه، بات الأمر تفصيلاً آخر من كل التفاصيل العصية على الفهم من حولي. إذاً سأستمر بالقراءة، وحين أسأل عن الجوامع والإسلام سأستمر بالقراءة، فهنا، حيث تملك جماعة المؤمنين كل شيء، أنا منبوذٌ تماماً، وحين يقطع رأسي، لن تعني رومانسية أذان الفجر بالنسبة لقاتلي أي شيء. غريبٌ في منزلي – حتى قبل أن يصبح الجميع غرباء – وغريبٌ في أي بقعة أخرى لا يرفع فيها الأذان، سأكتفي بالقراءة، وبين حدائق كاواباتا وأنهار هيسه سأجد وطناً مؤقتاً، ينتهي في الصفحة الأخيرة.
قاتلك الله… 🙂
وقاتلكم يا معشر البرمائيات الحكيمة