امرأة أعرف رائحتها
هل أخبروكِ أن لكِ وجهاً يلتمع تحت الشمس كالنحاس؟ أوصفوا لكِ ارتجافنا كالصقيع عند طلوع الصباح حين تبتسمين للفراغ؟ إذاً، سيدتي، اسمحي لي أن أوجهك نحو ثقبٍ في الجدار.
إننا لا نطيق أن نكون اثنين، أن يصبح نصف العالم آخراً، ونصفه الآخر تائهاً عن تعاريف للوجوه العالقة كأكياس بلاستيكية على الأسلاك، وجوهنا، التي أطلقناها فرحاً بكل ثغر باسمٍ، مثقوبة بخواء التذكر ونهاياتها تُجلد بالرياح إلى الأبد. نتلكأ في أسرتنا، يقتلنا خواء غرفنا ونبتلع كل الوحدة بصمتٍ، كغريبين نتجه بأبصارنا إلى السماء مغمضين همتنا عن شوق نصفنا للنصف الآخر يقطّعُ أحشاءنا.
دونيني، فأنا لا أطيق صبراً حتى يبتلعني جيدكِ كجثة مسمار.
أسدلي ستاراً من الشرود يخفي كل الأسئلة..
عانقي الوسادة ريثما أرمي بقلقي الأخير على حافة النافذة،
نصفي – الأعلى – احتضانٌ ونصفي موت.
يواسي نصفي نصفك بما فعل آخره بآخره، وأتفكر، لِمَ تبدو كل الأيدي سوى يديها غريبة؟ أي ثقلٍ لأيدي النساء هذا الذي أحتمل على كفي؟ أي ثقلٍ للنساء هذا الذي أحتمل على كتفي؟ حياتك شرنقة شُقت، وقبل أن تنبت لها أجنحة، احتضن التراب دودة لا أكثر، لولا الشق في شرنقتكِ، لكان لكِ الآن جناحان كبيران تطيرين وتحمين وجهك من وقاحة الشمس بهما.
عانقيني، كدرعٍ من الصمت يطرد عني الأرواح والأسئلة.
امرأة لا أعرف رائحتها
حين أفكر بتلك الأعوام القريبة، بالكاد أتذكر شيئاً، كانت الوجوه تتقافز كضفادع تحتفل، تعبر وترحل، يعلق بعضها في المكان، يعلق بعضها في الذاكرة، والغالبية تهجر القلوب والقارة باستمرار. حين أفكر بتلك الأعوام أتذكر امرأة واحدة، لم ألتقِ بها مرةً واحدة، رغم أنها جميلة، يعلم الله أي مبالغة قد ارتكب في جمال وجهها، لم ألتقِ بها ولم أتأكد إن كانت رائحتها كما تبدو عليه في الصور؛ رائحة حمامٍ طويلٍ من الأنوثة الصافية.
كانت في استراحات عملها القليلة تتصل بي، أو أتصل بها حين أتذكر وقت استراحتها، نتحدث حتى تنتهي أرصدة هواتفنا، تحكي لي كل القصص المملة عن السفلة الذين تشاركهم العمل، وأنا أستمع، كما لو أن الخالق يهمس في أذني سر الوجود، تحكي لي بغضب عن اضطرارها لمناوبة إضافية هذا الأسبوع، فيما أشعر بقطراتٍ من المطر تتساقط على أنفي وإبهام يدي الممسكة بالهاتف، أبتسم بصمتٍ لا يقاطع تذمرها، أهمس لنفسي ولبردى عديم الرائحة إثر أمطار الأيام الأخيرة؛ سأتذكر هذه المكالمة إلى الأبد.
لا كحبيبين، ولا كصديقين، ولا حتى كسجينين قديمين في مدن مولدهما، أو كروحين بائستين مختنقتين بحقيقة ضيق الوجود، بل كزاويتين مظلمتين، تلجأ واحدتهما للأخرى كل ظهيرة أو مساء، تفقد أعصابها في العمل، تغلق الباب خلفها، تغلق الستائر وتخرج من جيبها زاويتها المظلمة التي تحملها معها أينما ذهبت كحقيبة نوم، أفقد عقلي من الكحول، أتباطأ قبل خطواتٍ من باب منزل صديقي وأترك موكب السكارى يقتحم الظلام دوني، أتصل بها، أعلن نهاية اتزاني وأخبرها كل المدائح التي تورمت بها حنجرتي منذ سمعتُ صوتها للمرة الأولى.
حين أفكر بتلك الأعوام القريبة، لا أتذكر سوى صورها التي ترسلها باستمرار، الصباحات الشتائية على طرف شارعٍ خالٍ، حيث يشع وجهها بهجة ولكنه يعجز عن الابتسام، لا أتذكر سوى صوتها يقول لي “تخيل أن أسافر قبلك”، تضحكني الفكرة، مقتنعاً أن جثة حماستها الجامدة لن تعود للحياة بفضل معونتي، علقتُ قناعتي على المشجب الذي يتعلق عليه كمشنوق اعتقادي أنها لن تبقى جميلة هكذا إلى الأبد.
سافرت قبلي، وازدادت جمالاً، وستبقى جميلة إلى الأبد، وحتى القبر الذي سيحتويها سيستحيل حديقة تشع ربيعاً طوال فصول السنة، هكذا أخبرتني أولى صورها من القارة العجوز. المرات التي تخيلتني أمارس الجنس معها أقل بكثير من تلك التي تخيلتني فيها أتامل وجهها الحاضر أمامي بسكونٍ، أراقبه بانتباهٍ يكفي لمتابعة اتساع بقعتي التورد على وجنتيها خجلاً من نظرتي، أمد يدي لألمس جبينها، لا تدفعني بشرتها ناعمة المظهر لتخيل شعرها ينزلق على كتفها، أو ثيابها تنزلق عن نهديها وبطنها الطرية، بل لتخيل العالم بأسره ينزلق عنها.
حين أفكر بتلك الأعوام الشاحبة، بالكاد أتذكر سوى الغبطة التي تغمرني حين تضحك أخيراً، أو حين تخبرني أنها رجعت لحبيبها وتشرح لي كيف ستتوقف عن التواصل الكثيف معي احتراماً له، ابتسمتُ بعمقٍ حينها، لم أنتبه للنهاية الهادئة لرحلتنا بقدر ما سرقتني حقيقة اعترافها أنني أهدد مقعد حبيبها، كأنها سمحت لي بتجربة التاج لعشرة ثوانٍ، أو الجلوس على العرش بما يكفي لأصرخ “صباح الخير يا مملكتي”.
أضع السماعات، أغمض عيني طرباً لصوتها وأتخيلني أعانقها مطولاً، أفتح عيني مستجيباً لصوتها يكرر اسمي، أطلب منها أن تعيد عبارتها الأخيرة وأغمض عيني طرباً من جديد، أكذب عليها وأقول أن اتصالي بالإنترنت سيئ، لا يمكنني أن أقول لها إنني أنشغل عنكِ بكِ، لا يمكنني أن أطلب منها خفض صوتها ريثما تهدأ مخيلتي… فستانٌ أصفر، وابتسامة ألمانية شاحبة، أي صباحٍ هذا؟ أي أفكارٍ سأصارع في الأيام التالية؟ سيتردد صوتها يقول لي “تخيل أن أسافر قبلك”، ويرتد صداه “تخيل لقد سافرتُ قبلك”، فيما كنتُ أصارع لاستعادة حكاياتي الكاملة، وجدتني في الصباحات أفيض ابتهاجاً بحكاية لم تنتهِ، مسودة حكاية بالكاد كتبت وأزيحت، بامرأة لا أعرف رائحتها.