اليوم لا بد من وضع الأمور في نصابها؛ نحن لسنا سوى سندان، لن نكون مطرقة، ولم يكن هناك من يهتم بتوجيه الأمور إلى المنحى الذي ينتهي بكوننا مطرقة. نحن مجرد ظروف استضافة، متفرجين لا يكترث أحدٌ إن انسحبوا أو رحلوا قبل نهاية العرض. فلنكن واضحين بخصوص كل شيءٍ، قيمتك تتجلى بقيمة الفوائد الراجعة على قاتلك من تركك على قيد الحياة، وفي بعض الأحيان ترتبط بقدرتك على إعطاءِ مغزىً لموتك ما دمتَ حياً، مغزىً يؤخره عن العودة إلى منزله لتلميع ما تراكم لديه من معادننا الثمينة.
كل ذلك يتفاوت بدرجاتِ ضئيلة بشكلٍ مفرط، ضئيلة بما يكفي لاعتبارها غير موجودة على الإطلاق. فليكن الأمر واضحاً، أيٌ منا ليس عدواً للآخر، وحتى أولئك الذي يطلقون القذائف والصواريخ دون رحمة، ويرددون كالببغاوات شعارات التاريخ دفعة واحدة مع كل رئتين نجحوا في إيقاف رقصتها الأزلية. أي منا ليس عدواً للآخر، نحن فقط مجبرون على الرهان، مجبرون أن نضع كل ما نملك وكل ما نحلم على طاولة القمار، بانتظار يدٍ واحدة تجرفها جميعاً بضغطة زناد أو قذيفة تُفلت على عجل معلنة انتهاء وقت الحرب لليوم وبدء وقت الشاي.
لا أحد منا يتمنى الموت للآخر، ولا أحد منا قادرٌ على التفكير بصوتٍ مرتفعٍ بموت الآخر، وجميعنا متسامحون بخصوص ذلك. سنموت وسيموت كل من حولنا، جميعنا سننسحب بأجسادنا الباردة وحيواتنا المفتتة بصمتٍ، نفسح الساحة للضجيج ليستمر. لا رغبة لنا بالمشاركة بالضجيج أمواتاً أو حتى أحياءً، لا رغبة لنا سوى بمتابعة طريقنا، بخطواتٍ ثابتة، تصنع إيقاعاً يلهينا عن الضجيج. تابعوا ضجيجكم، ونحن سنفعل أياً كان ما نفعله على هامشه بصمت، قد نسكر أو نمارس الجنس كامين أفواه بعضنا البعض توخياً للصمت، نصلي أو نقرأ تعويذات أجدادنا، نموت أو نهرب تاركين أرواحنا خلفنا بصمتٍ مطلق. سنترك صواريخكم تسرق خجل الأطفال المتسربين إلى الشوارع في نشوة الظهيرة، سنترك طائراتكم تسرق أصوات المدينة وتوسلات مشرديها الذين يلتحمون بالطرقات المهترئة، لن نشوشكم بأزيزنا، سنكون جدراناً، تتلقى كراتِ الحقد بصمتٍ وتترامى على أنقاض الحضارة دون أي مطالب على الإطلاق.
نعرف تماماً كيف يموت وكم يموت من الماكثين خلف أكوام التراب التي تخفينا عن أعين الموت، نعرف بشكلٍ دقيق كم الفرق بيننا يصل حد التناقض، ولكننا – بوصفنا عناصر مختلفة المواقع على قائمة انتظار الفاجعة – نعرف كيف سيجمعنا الحزن القصري قريباً، وكم سنكتشف، حين تنهار كل جدران ترهاتهم، أننا متشابهون في المسافة من الموت، الاختلاف كان في التماس أجسادنا له، بين عجلة من فقدوا الأمل، وتثاقل خطواتِ من فقدوا الأمل باسترجاعه.
تجاوزنا منذ وقتٍ طويل عصر مبررات الواقع المكروه، تجاوزنا الخطابات البطولية، والجدالات المكوكية، نتبادل الآراء كمن يتبادلون زمر الدم، نتبادل الاتهامات كمن يتبادلون حكايا الجدات، ونرمي – بعد الكأس الرابع أو التجاهل الثامن لتضرعاتنا – خلفنا كل الماضي، نصم آذاننا عن جعجعة مصانع الهواء، مجرد عيبٍ في صوتٍ العالم يمكن تجاوزه ببعض البراعة واحتقار الكراهية. تجاوزنا منذ وقتٍ طويل عصر مبررات الواقع النتن، نحن هنا في هذا التقاطع المشؤوم بين خطوط الطول والعرض والزمن، لأن أموراً خارج رغبتنا حصلت أو لم تحصل، نحن هنا لأنه ما زال لدينا ما يمنعنا – كحنينٍ مفلسٍ أو جيوب خاوية – عن مفارقة هذه المشرحة الواسعة، نحن هنا لأننا لم نعطهم ما يكفي من تنازلات عن بقايا الإنسان فينا، لم ندفع لهم ما يكفي لتستدير بنادقهم بعيداً عن رؤوسنا وخطونا.