أنا حزينٌ دونكِ، يمكن لجملة مؤلفة من ثلاث كلماتٍ أن تختصر نصاً بطول خمسمئة وإحدى وعشرين كلمة، وأي نصٍ في العالم يمكن – عند فهمه والبحث مطولاً خلف سطوره – أن يُختصر في ثلاث كلماتٍ، غالباً هي الكلمات ذاتها، أنا حزينٌ دونكِ، وحقيقة شعورك بالبرد للمرة الأولى معها، وهبوب عاصفة ثلجية تسجنك داخل البيت والذكرى، لا يعني شيئاً، فهي –العاصفة أو الذكرى – ليست سوى صدىً للانفجار الأول، انفجار حزنك دونها، شعورك بأن ولاءك للموسيقا أثمر نجاعة اشتغال الصندوق الموسيقي في غرفتك دون سابقِ إنذارٍ، وانفجار حنينك على إثره لا يعني شيئاً، فأنتَ حزينٌ دونها، وإن انفجر هذا الصندوق نفسه في وجودها بالسيمفيونية الخامسة لكنتَ نهضتَ من سريرك وأوقفته أو كسرته، ولكنتَ تعاملتَ مع صوت عقرب الثواني الذي تنتجه أذناك منذ وقتٍ طويل بعنفٍ أكبر، لكنت مزقتَهما، أو أزلتَ قلبكَ، كما أزلتَ بطاريات عشرات الساعات التي استقرت سابقاً في غرفتك.
رسائلك الصباحية، ورسائلك المسائية، كلماتك التي تعتني بسبكها، وقراءتك السطحية لأعماقها، استيقاظك على وقع الشوق لطعم الدماء في فمك، وانتصابات لاوعيك المكشوف، ارتجافكَ يأساً، واستفزازك لحدود احتمالك، الخدوش في أصابعك، صراعك مع الليل، انتظاركَ للشمس، ومن ثم انزعاجك منها من أجل حاسوبك، جميعاً لا تعني شيئاً، جميعها اجتمعت قبلاً في سواك، وجميعها راودت كاتباً مهزوماً كانتهاك، تسيل أنوار ذكراها دماءً على جبينك الخشن ولحيتك المتهالكة، تميز اللون الأحمر لا سواه من كل شيء، وتفسر كل ما يحصل بالهرمون، تنام مرتاحاً على تفسيرك “العقلاني”، وتستيقظ بعد حلمٍ أو اثنين محاصراً حد الاختناق، مستفزاً حد الألم في الأسنان لحقيقة أنها تحيا دونك، وأنها تحزن لكل أهل الأرض إلاك.
أقوالك، أفعالك، حماقاتك ولحظات شجاعتك البلهاء، كلها أصابت سواك، وجميعها راودت كاتباً مهزوماً كانتهاك، قناعتك بانتصار الحياء، وبأنها لا تقدر دونكَ امتهان القراءة الصائبة للغيوم المستلقية بكسلٍ في السماء، حتى همسكَ لها بأنها الذكر، وتحججك لسجنها في غرفتك بالخطر، ندمكَ في الثانية التالية، وتوق جسدك المكشوف كأرنبٍ مجروحٍ في العراء، كلها، بل أكثر منها، أصابت سواك، وجميعها دفعت كاتباً مهزوماً لتقيؤ نفسه على لوحة المفاتيح كانتهاك.
تبتلعك الشوارع المهزومة، أنتَ الأخير في هرم الهزيمة، تسير رشقاً، ترتفع وترتفع وترتفع، متجاهلاً وجْدَكَ، وكم سيفتِّتكَ عند السقوط على أرضية الشارع المهزوم، تنكر على نفسك ضرورة تأمل شظايا الفراغ التي ستؤول إليها، ترتفع وترتفع وترتفع، وهناك حيث أنتَ ترى جماهير التفاصيل واضحة المعالم، مصطفة كمهرجانٍ، متخذة شكل الحروف التي تختصر قنوطك، أنا حزينٌ دونك، تأمل أن تسقط على الحاء، وتبقى معلقاً عليها كخازوق أصيل، أن تتأرجح ذراعاك وساقاكِ بتؤدة مع مداعبات الرياح، تخاف أن تسقط بين الزاي والياء، ويبتلعك الفراغ.
استمع مجدداً، أغمض عينيكَ، فتلك المقطوعة التي يبصقها صندوقك الموسيقي كالدماء، كأنفاس محتضرٍ أخيرة، لا بد تتجول ارتطاماً بين جدران غرفتك، أغمض عينيكَ وابتلعها، أرسل لها من جديد، ومن جديد ومن جديد، وسع شفتي جرحك ما استطعتَ، لا تتوقف حتى يصير بسعة ذراعيك، انزلق إلى داخلها، وأخبرها أنكَ تشتهي لو تغتصبها، تشتهي لو في الصباح – صباحك أنت – لا تجد أثراً للحضارة، لو تسير عارياً، كوحشيٍّ أصيل، كإنسانٍ نقي، لتجدها، بكل وحشيتها، غير مهذبة بخراء الحضارة، فتصدر أصواتاً تنبئ بالربيع وتغتصبها، حينها لن تملك لغة، ولن تحتاج لمئتي كتابٍ كي تعرف كيف تحكي لجذع الشجرة وبيوض التماسيح ما يؤلمك، حينها ستكفيكَ لغة واحدة، أنا حزينٌ دونكِ، وتمضي حتى يضمر جسدكَ ولغتك الثلاثية، تتناثر مع أول هبوب يحمل إليها صداكَ، تهمس لها لغتك فتفتح ذراعيها تاركة الريح تداعب النهد العديم والحلمة الصماء.