في رأسي ثلاثة أصواتٍ من أصل أربعة تريد النوم، وواحد يريد أن يعرف إن كان للبطريق ركبتان. أي شيءٍ يحوي بطريقاً مضحك بما يكفي بطبيعة الحال، وربما مضحكٌ أكثر أن تكون البطاريق مخلوقاتٍ تثير الضحك لدينا، ننظر إليهم ونضحك من أسلوب حياتهم، من تعاقب الليل والنهار فوق كسلهم، ومن ثم نستيقظ في الصباح، نرتدي قطع القماش المضحكة التي لا يمكننا مواجهة البرد دونها، ونحمل حقائبنا المليئة بالأغراض عديمة الأهمية إن حصلت كارثة أو أصابنا جوعٌ لغداءٍ مبكر، وفي استراحة التدخين، نتحدث عن البطاريق التي شاهدناها يوم أمس ونضحك.
جل ما يقوم به هو انتظار الجوع، ليغطس، يصطاد سمكة أو سمكتين، ويأكلها مباشرة، دون طهوٍ، دون بهارات، دون مشاكل مع جاره الفقمة، جالساً كل الوقت في أكثر المناطق برودة من العالم، حيث لا يمكن للإنسان أن يعيش وينغص عليه عيشه، لم يقترب من البشر، حتى أساطيرهم بالكاد يبدو له أثرٌ فيها. تسمع الملاحم تدعوكَ لتكون أسداً، أو ثوراً، أو بقرة أو جدياً أو تنيناً أو حصاناً أو ذئباً، أيٌ منها لا يدعوكَ لتكون بطريقاً، يسألونه كل نحو مئة أو مئتي سنة، أترغب أن تكون في جردنا الأسطوري لكائنات الكوكب؟ يجيبهم لا شكراً، ربما البشر التاليون.
حين بدأتُ بقراءة الروايات صرت مهتماً بالشخصية الفريدة، الخارجة عن السياق، المليئة بالهراء الذي لا يمكن صناعة رسم توضيحي له حتى، خصوصاً أن نصف أبطال الروايات قرؤوا بشكلٍ قطعي الأعمال الكاملة لدوستويفسكي أو تحولات أوفيد، في ما بعد، تغيرت المعادلة، صرتُ أكثر اهتماماً بالإنسان العادي، لا أعني العادي بشكلٍ شعري أو مثير للاهتمام، بل العادي، العادي جداً، الذي يعبر حريصاً ألا يلاحظه أحد، يشترك في الحياة البشرية فقط بالقدر اللازم لتحصيل طعامه والتكاثر، وفيما تبقى من الوقت يجلس صامتاً، يتابع الحياة البشرية باهتمامٍ محدود، كبطريق.
يتأمل كل شيءٍ من حوله ويجده معقداً، معقداً جداً، لم يعد بإمكانه فك اللعنة التي تركته بين هذه المخلوقات، ولكنه لم ينسَ المكان الذي أتى منه، لا يفهم لماذا عليه أن يعمل ست ساعات من أجل الطعام، إنه هناك، لمَ لا يذهب ويلتقطه بكل بساطة كما كان يفعل في المياه الباردة؟ لم يكن أحدٌ هناك يأخذ سمكة إضافية ليقايضها لاحقاً بمكعباتِ ثلجٍ أو ما شابه، هنا يشغلون أنفسهم بأشياءٍ غريبة، لماذا يهتمون كثيراً إن كان شخصٌ ما في مكانٍ ما في زمانٍ ما بعيداً جداً عن حيث هم الآن فعل شيئاً ما أم لم يفعله؟ هناك كان بالكاد يهتم إن كانت شريكته بالتكاثر ما زالت على مقربة منه أم لا، كل ما يشغله هو أن ينتهي من تأمل الأفق الأبيض المحيط به قبل موته، وما وراء هذا الأفق تركه للآخرين، لا بد من تقاسم الكون حتى نفهمه، محاولة بلهاء هو السعي لفهمه دفعة واحدة.
ثلاثة أصواتٍ من أصل أربعة في رأسي تريد أن أمسح ملف تلك المحاولة الفاشلة، وصوتٌ واحد مصرٌ على إتمام الفشل حتى نهايته. وجل ما أفعله هو ترك تلك الأصوات تتنازع حتى تنهكني وتوقعني صريع النوم، وتخيل كوكبٍ كبير، بكل ضجيجه وحروبه ومسوخه، وعلى قمته بطريقٌ صغير، يجلس على حافتها ويرمي قدميه للريح دون اهتمام، يتناول سمكة مبللة على مهل.