العصيان، ما نحياه لا يعدو كونه شكلاً من أشكال العصيان، العصيان ليس على حكومات ستندثر عاجلاً أم آجلاً، بل على ثوابت ما ظنناها تتغير، أن يصبح الحاسوب مجرد منضدة وأعود للكتابة على الورق، أن تفتح الصنبور الأحمر فتنزل المياه الباردة، وتفتح الصنبور الأزرق فلا ينزل شيء، أو ألا يعود المصباح النفطي مجرد أداة إنارة تقرأ عنها في روايات مطلع القرن العشرين، أو تسمع عنها من جيل جدك الذين لا يفهمون حتى اليوم آلية عمل التلفزيون، أن تتنازل أخيراً وتسميه تلفزيون بدل تلفاز، من يهتم؟ سمه خلاط عصير لو شئت، معاركك الآن أكبر.
معركتك الآن مع اتجاه سقوطك، لا شيءَ يمكنك فعله، إما أن تسقط على صخرة صماء ويتشظى رأسك كإناء ممل، أو في البحر وتنفجر رئتاك بالماء، تحار أيهما ألطف، حوار قدميكِ مع الهواء سيحدد كل شيء، قدماك بانتظار الأوامر، لكن لا شيء، ساقاك مرتخيتان، تغمض عينيك وتسقط، لستَ تحاول تغيير أي شيءٍ على الإطلاق، فلنرَ إلى أين ستنتهي.
ماذا لو كان كل ذلك حلماً عابراً لأحد الآلهة؟ ماذا لو كان ذلك كله حلمكَ أنت؟ ماذا لو كنتَ إلهاً كسولاً ينام طافياً على المياه الساكنة؟ ماذا لو كنتَ تؤجل التكوين ملهياً نفسكَ بأحلامٍ عن بشر لم تخلقهم؟ “سأنتظر حتى يموتوا جميعاً” تقول لنفسكَ مطالباً باستمرار قيلولتك الأزلية.
لقد انتظرتَ طويلاً اللحظة التي يتاح لكَ التصرف كبطلٍ فيها، انتظرتَ طويلاً، حانت اللحظة، أصواتهم تعلو أسفل منزلكَ، تعود إلى غرفتكَ، تشغل فانوسك النفطي وتتابع قراءة الكتابة الممل نفسه، تطل أحياناً من الشرفة لتتفرج عليهم بقمصانهم الداخلية الملوثة، “إنهم أبطالٌ الآن، أنا مجر صفحي مفلس، ليسوا بحاجتي”، ربما يقولون عنكَ جباناً، بل قد يمازحكَ أحدهم بهذا الخصوص غداً، حين كنتَ أكثر شجاعة منهم جميعاً لم يكن أيٌ منهم هناك ليتفرج، بل إنكَ تمنحهم امتياز الفرجة عليهم، هؤلاء الجبناء، “حين أنقذتُ أرواح أخوتكم كنتم هنا تتبادلون شتيمتهم”، ما الذي ينقذونه بالضبط؟ أريكة وتلفاز وبعض الصراصير؟ إنه تلفاز… تلفزيون، جهازٌ سخيف جعل حادثاً أسخف يحتل ليلة أو ليلتين من أحاديثهم.
“لا تنعتهم بالجهلة؛ ذلك يجرح مشاعرهم”، هل ادعيتُ يوماً أنني أفقه بصيانة السيارات أو الحواسيب؟ هل تشدّقتُ يوماً بأنني اكتشفتُ السر الكامن وراء تلف النقود؟ بل أخبروني؛ هل قلتُ يوماً لواحدٍ منكم أنني أتقن استخدام الآلة الكاتبة؟ إذاً لماذا يتكالب الجميع على بقعتي الصغيرة من الكون ويطلبون مني أن أرحب بهم؟ هل أكترث بمشاعر قاتل حين أنعته بالمجرم؟ هل أكترث بشعور جندية لا تتقن لغتي إذا نعتها بالمحتلة؟ بالله عليكم أبلغوني، هل أكترث بشعور عاهرة إن جرح مشاعرها استخدامي للواقي الذكري؟
لا أريد أن أكون شهيداً، بل لا أكترث – إن متُّ – بالألقاب، جميعهم شهداء، اتصل بجارتك وأخبرها أن باب الشهادة فتح من جديد، وأن بإمكانها تسجيل زوجها وتضمن له مقعداً في الجنة، وتعويض وفاةٍ لائق، لا أريد أن أكون شهيداً ولا أريد أن يدعى أي منهم شهيداً، الحق حق ولا بد منه، من حقه أن يُدعى شهيداً على الأقل، أعتقد – ولا أجزم – أن لحقه بالحياة الأولوية.
العصيان هو ألا ترغب بالموت، اليوم الجميع يريد أن يموت، أصبح الأمر رائجاً، ذلك والصوفية، الجميع يريد أن يكون صوفياً، باستخدام تلك المعدات الشيطانية التي لم يخطر لله أن يخلقها، على الفضائيات وفي النوادي الليلية، لستَ بحاجة هذا العناء كله ليعلم الجميع أنكَ تحب الله، اِقطع رأساً أو اثنين وسيعلم الجميع، الجميع يريد أن يموت، اختر اثنين أو ثلاثة منهم، اِقطع رؤوسهم، ويربح الجميع.
حين رسمتُ بأصابعي حدود الشمس
قالوا فَعَلَ الإله…
نفضتُ غبار الكون عن قدمي
وغادرتُ كواكب ناكري الجميل
بل أخبرني البعض أننا ننحدر، قلتُ لهم “لا يا صديقي”، أنتَ وحدكَ تنحدر، بل قلتُ له إنكَ في الحضيض، إنك أسوأ حيوانٍ خلقه راسم الشمس على الإطلاق، أنا ما زلتُ أعلو الحضيض بقليل، ما زلتُ أريد مشاركة الكوكب مع الآخرين، أنا مجرّد صحفي عاطل عن العمل، وميوعة الحياد ليست من شيمي، على الأقل ليس بالمجان، أن تقول أنني وذاك الذي قرر مؤخراً أكل الرؤوس بدل الخراء انحدرنا، سوياً، وكأننا واحد، اسمح لي… أكثر ما انحدر هو عقلك وقدرتك على التمييز بين الفرج الجيد والشرج النظيف.
أنا مجرد إنسان بسيط، يطالب بحصته من الكوكب والعصيان، دعوني أعب الكحول وأمارس الجنس وأكتب الهراء في زاويتي من الكون، لن أزعجكم، حتى إنكم لن تشعروا بوجودي، بل أعدكم، رغم أنني أشرف نسباً، ألا أطالب بالخلافة، لن أكون سوى خليفة سكير، وأنا في نصف الطريق الآن، لا أدري ما قد تضيف كلمة تشترك بالحرف الأول مع “خراء” إلى ماهيتي.
بل أنا ضفدع رائق المزاج
يمضغ ذبابة على نافذة الحمام
ويراقب نهديها باهتمامٍ شديد