1
باب الخزانة مغلق، أتسرب إليه كل برهةٍ وأخرى، أفتحه على عجل، أسرق القميص وأستنشقه بعنفٍ يختصر وقت خروجه من الحزانة، أغلقها مغمض العينين، ورائحة القميص عالقة في أنفي، أبتعد قليلاً، مغمض العينين ممتنعاً عن التنفس، أنتظر حتى تضعف ذرات العبير في رئتيَّ، تتساقط وتصير جزءاً من دمي.
2
أستعين ببعض الذكريات، أشعر بالذنوب تحيط بي من كل جانب، حتى تضيق بنا الغرفة، فأخرج، متيحاً لذنوبي التمدد والتكاثر، أتنحى جانباً وأتفرج على أكوام الذكريات تتهشم على عطش سريري، أفتتح الليل بذكراكِ، وأختمه بندمك، “إذا مسك شيءٌ مسني”*، وإذا أضناك وجدٌ هدّني، أستعين ببصري، ببصيرتي، وأسرق الأحلام من عقولهن، أستعين بسمعي وبخيبتي، وأرفع الكأس المقدسة عن أفواههن. ربي كن لي عوناً، وكن لهن عوناً في إعانتي.
3
كان عليّ إحضار الفراولة، هذا ما يخطر لي الآن، ربما كل شيءٍ كان اختلف، ولكنني لم أفعل، اكتفيتُ بتقديم القهوة وشفاهي، تلك لا تكفي، بيني وبين ضريح خولة اثنا عشر متراً أو ما يقارب ثمانية من جسدكِ، لا أتذكر كيف ماتت، ولكن اسمها يذكرني بعينيكِ، لكِ عينان كعيني خولة، وهمة كهمة ضرار.
4
أنبتُ من تحت غطاء السرير، أهمس للعالم بشتائم صغيرة وأتابع نومي، أهلك نفسي هرباً نحو النهاية، أتابع سيري بخطىً حثيثة، المهم هو ألا ننسى، ألا نرمى خلفنا كنوزنا لنخفف من وزن السفينة، المهم أن نحوز كنوزنا أو نغرق معها ومع الكون كله إن استدعى الأمر ذلك.
5
غرفة لا تكفي، كوكبٌ خالٍ بأسره لا يكفي، هناك بيننا أمورٌ لا تطال ولا تقال، هناك – حيث لا ظلام ولا ذكرى – سأتوسد شعيرات الوجه والعنق، وأنام كأن الصباح لن يأتي.
6
توقفتِ عن إجابة هاتفكِ، هل وضعته في الحقيبة وانتطلقتِ لملاقاتي؟ أم إنكِ في الحمام تعيدين ترتيب الكواكب ومازال علي مرافقة شمس الظهيرة بدل عناق معبدكِ؟ أحار بنفسي، أتوه بين جنون رغباتي، شفاه إذا غابت فويلٌ وإن حضرتْ فويلات، إن تباعدتْ أصاب عالمي جنون كجنون الخلق، وإن سكتتْ أصابه الموت، لا يتحرك إلكترون واحد من مكانه. إن سكتت، يغفر الله للجميع ويحبس أنفاسه، أغالب نفسي كي أنظر بعيداً، بعيداً حيث لا شيءَ خارج عن المألوف، حيث تكون حيرتي وخيبتي جزءاً من الهواء، أغالب نفسي وتغلبني، وعيناي كبوابة تحرس قلاع سوسنكِ.
7
ما كان عليكِ أن تختاري صليباً، أنا منذ عرفتكِ أحمل صليبي وأسير، وبعد رهط من السنين تساقطت صلباني عن كتفي، ولم يبقَ لي واحدٌ سواك، أتزيدين أحمالي؟ أتؤكدين استحالة احتمالي؟ كان عليكِ أن تختاري فيروزة خضراء، أو ربما قليل من دمكِ أحتسيه دفعة واحدة، كان عليكِ أن تختاري أي شيءٍ سوى الصليب، كان عليكِ أن تختاري الموت ضحكاً، أو الانتحار شبقاً، الموت على الصليب يدوم، تجول الروح بعد انطلاقتها في سفوح الجبال القريبة، ينهكها الصليب، يؤخر إلى الأبد انعتاقها.
8
لن تقرأي كتابي الجديد، ولن تقرأي أي كتابٍ أكتبه، أيشتري مالك النبع ماءً من الساقي؟ أيستحيل الذهب ألماساً إذا احترق؟ أدنو منكِ بفراقكِ، ألتصق بغيابكِ كما تلتصق الفراش بالنار، أخفيكِ بين سطوري، وبين ضجيج غرفتنا، فلا أراكِ ولا ترينني، ولا أشتاقكِ.
9
أصارع روحي، أقتات حزني، أستقي وحدتي، وأراجع كل الأمور لأعرف أين حصل الخطأ، أين فُقدت الابتسامة ووجهك من صوري، أصارع جراحي، إذا هزمتها هزمتني، وإن تركتها أكلتني، أترافع عن نفسي أمام قضاة أهوائي، وأدفع بالبراهين أن ما في الدخيلة يتعب النفس ولكن يغذي اشتعالها. أسمعكِ، أعرف أنكِ تقولين كل شيءٍ، لكل شيء، ومن أجل كل شيءٍ أصمت وأستمع، أغب مرار البون وأبتلع، وأجري بلا هدىً بين الموجود، أعوض به ما أظنه مكاناً للمفقود، فموجودي فُقِدْ، ومفقودي حيث تنام الروح وُجِدْ.
10
ليس من السهل أن تبدأ مرحلة جديدة من حياتك، غالباً تجد نفسكَ عالقاً من جديد في المرحلة السابقة، أو ربما تنتقل إلى مرحلة جديدة حين يقرر الكون وساقاها ذلك، أنا لستُ عذرياً، ولا أطمح لمزيدٍ من فناجين القهوة والسجائر الساذجة، أنا إذ أحبكِ بكل قلبي وما بين ساقيّ، ابتدأتُ مرحلة ما بعد قلبكِ، وعالقٌ إلى الأبد في ما قبل ساقيكِ، أنا مهمومٌ بكل الأجنة التي تموت، أن منهك ٌ من التفكير بالأسرّة التي تسرقني، بالوسائد التي تخنقني. أنا أنتِ، أنا بقاياكِ في ذاكرتي.
* الحلاج (41)