أنا فراشة مجنونة تنجذب نحو نارك وتحترق مرتين كل يوم، كقردٍ مازوخي مفتون بعنفِ عبارتكِ، أجتر قحط النطق من صوتكِ المهزوم، وأرسم عباراتٍ سأقولها يوماً ما، حين تحصل المعجزة وتتهاوى كل الأقفاص فوق رؤوسنا، حين تكونين سجينة أنقاض قفصين يفصلان بيننا منذ ولدنا، هناك المئات من العبارات منحوتة في رأسي، سأقول لكِ أنني “عادة لا أحب الشعر، خاصة الشعر الجيد، ولكني أحفظكِ عن ظهر قلبٍ، كصلاة مملة رتيبة تؤدى ضريبة يومية لربٍّ صامت”، وربما سأمنحكِ الشرف وأخبركِ؛ “أنتِ الأفضل طولاً بين عشيقاتي”.
أنا عاشقٌ محبط، لا يرى سبباً وجيهاً لحلاقة لحيته والتجول في مدينة لستِ فيها، أنا بقايا الطحالب على الجدار، أنا التكلس الذي فاق الله تسرباً إلى البيوت، أنا شظية انفجارٍ لم يقتل أحداً، أنا الشمس…
أنا مسمارٌ في بركة ماءٍ، لا صلة لي بالعالم سوى ميوعة كميوعة الماء، أنا مهووسٌ بظل الشعر على العنق، أنا إذ بدأت هياماً بتفاصيل الوجه واحداً تلو الآخر، فإنني بعيدٌ – بعد الشمس عن غرفتي – عن شفتيكِ، أسلي نفسي بخيالاتِ نهدٍ ورئتين تدفعان أضلاع الحزن إلى الجنون، أرفع وجهي ولا يبدو شيءٌ واضحاً، كما لو احترقتْ عيناي بانفعالي، كما لو أنني الشمس.
“أكسب ملهمة” وأمضي، أكسب حجة غيابٍ وعذراً لاستخدام الحمام، وأمضي، أمضي كأن الحرب لم تكن، وكأن أشلاءهم تقدم لنا الحلوى والنبيذ وأكياس التبغ، محاطٌ بالعجز، أن تكون قطاراً على سكة لا تنتهي، أن تقتل أطفالك على عجلٍ وتمضي، سربٌ لا صيادين حوله، أرمي خلفي زجاجاتٍ فارغة ومسودات لم تكتب لها الحياة، أرمي بكل ما أملك.
أنتِ مغامرتي الأخيرة، قبل الرمي بسفني محترقة قرباناً للبحر المتغطرس، دموعي الخصيّة تودع مرآبها، أشتهي لو كنتُ منديلاً يشغل ست ثوانٍ من انتباهكِ، ويُرمى فوق جبلٍ من القمامة ليعيش نشوته الأخيرة، قبل أن يتحوّل العالم من جديد إلى صفحة بيضاء، أشتهي لو أكون البحر، وتمر أمواجي خلسة بين ثنايا النهد والقماش، أظل ملتصقاً بكِ حتى تنفتح أقفال النعيم راميةً بي نحو جحيمٍ لا وجود فيه لحلمتك المقشعرة استجابة لريحٍ خصبة، أشتهي لو أكون الشمس.
تلمسي جراحي، تذوقي خاصرة أرهقتها الحراب، اهطلي ماءً وطيناً على جفافِ دمي المتحمض، ارفعي المرآة، تأملي وجهكِ من زاوية جديدة، كما لو أن الشمس تشاهدكِ، التقطي أطراف شفاهكِ بإصبعين، مدديها وقولي “ابتسامة مجانية لا تُفقر”، اكتبي على يدكِ الحرف الأول من اسمكِ، قريباً ستُختَصر الأبجدية إلى هذا الحرف لا غير، وحين تراقبكِ عيون الآخرين، تلك الأجساد التي تشاء عيون الطبيعة لو تودّعها، داعبي معصمكِ، اضغطي بقوةٍ أكثر، تجاهدين كي يخلق لكِ عقلكِ وهم الرطوبة، كإسفنجة تعصر أصابعي الهيوليّة سوائل ماضيكِ.
أكانوا يتركون الخيام، ثم يدعون النجوم لتبارك أيديهم الرطبة؟ أم أنهم كالجرذان يكررون رقصة القردة المملة في زوايا الظلمة والصمت؟ ألم يجربوا مراقصة نهايات أعصابٍ بلا جسد؟ ألم يجربوا تقليد مداعبات الله لسكان بابل؟ أسمع أصداء أناتهم تضعضع ألفة المدينة، تختنق في كل زاوية وكل سرير، أجنة ولدت ممسوخة، تلاشت مستنجدة بالفراش، زاوية من صمتٍ تغويني، وأرغب لو كنتُ شمساً فأدخلها.
أمذاق الله على جبينكِ؟ أم كعكٌ زيدت حلاوته لتخفي رداءته؟ أتيه؟ كقطرة ماءٍ في المحيط تتوزعني أبعاد المكان، أتشنج أكثر وأكثر، ألتحم بخلايا الحيتان وسيقان النعام، أنتشل أصابعي من الخاصرة، وأهربُ وأهربُ وأهربْ، وأبحث عن زاوية معزولة عن كل بؤس المكان، أتجاهل تنفسكِ وكأن شيئاً لم يكن، وكأن أشلاءهم تقدم لنا الحلوى والنبيذ وأكياس التبغ، محاطٌ بالعجز يعجز، ولا يرى دروباً سوى الهرب، يسرق أصابعه من خاصرة ذكراه الأخيرة، ويهربُ ويهربُ ويهربْ، لو أنني بعيدٌ عن كل هذا الضجيج، لو كنتُ نجماً منسياً في فراغ الكون، فقط لو كنتُ الشمس.
إن استمرت لعبة إيقاف الزمن التي أمارسها، فإن لقاءنا هو الآن، لو كان للزمنِ عندي ثبات، لمضى عامٌ دون تذوق لسانك محاطاً باللاشيء، لكان الزمن كله قبلة، لا أكثر ولا أقل، كأن كل شيءٍ لم يكن، أستنشق كل هواء الغرفة، خانقاً الفراشات الثلاث المتجمدات على الجدار، أنا فراشة مجنونة تنجذب نحو نارك وتحترق كل يوم، كقردٍ مازوخي مفتونٌ بعنفِ عبارتكِ، أجتر قحط النطق من صوتكِ المهزوم.