حاسوبي العزيز؛
مر زمن طويل منذ استخدمتك للكتابة آخر مرة، يمكنك أن تدرك ذلك من تغير سرعة الكتابة في المرات القليلة التي يستخدمك فيها سواي، الكثير من الأمور تغيرت في غيابك، الكثير من التكنولوجيا دخلت حياتي وبالكاد استطاعت أن تضيف شيئاً لها، رواية كاملة كتبتها على حاسوبي المحمول ولا أعتقد أن الفرصة قد سنحت لكَ لقراءتها.
هل تذكر الفتاة التي حرضتني يوماً على الكتابة على الورق أو على حاسوب العمل بدلاً من إصلاحك؟ لقد ساءت الأمور كثيراً، وهي ربما أحد أسباب عجزي عن النوم الآن، وتلك التي رأيتني أبكي وأنا أنهي روايتي عنها؟ الأمور ساءت أكثر مما يمكنك أن تتخيل أيضاً، لو تعرف فقط كم من الأمور ساءت كثيراً، لو تعرف كم كنتَ محظوظاً لتفوت كل هذا البؤس، أحياناً أتمنى لو أن شيئاً لم يتغير، ككل من في البلاد، والدي بات يستخدمك لتصفح الإنترنت، وقد تسربت لكَ بسببه بعض الأخبار ربما، كان علي أن أقرأ الأخبار منكَ منذ وقتٍ طويل، هكذا تصبح الصدمة أقل وقعاً على أجزاءك الرديئة.
هل تذكر الرواية التي أنهيتها باستخدامك؟ لقد نشرت الآن، منذ عام وعدة شهور، وترشحت لجائزة لم أكسبها، أتفهم الآن أعطالك أثناء كتابتي إياها، ربما كنت تحاول إخباري أنني مقدمٌ على ما لا حمل لي عليه، ولم تستطع أن تبعدني عن الهاوية التي أسير نحوها بخطىً واثقة، أحياناً حماقة البشر تكون أقوى من حكمة الآلة، لقد كتبتُ رواية أخرى، مليئة كسابقتها بالحديث عن شؤونٍ لم أختبرها، مليئة بكل الأمور التي لا أريد قولها، أشتاق لحين كنتُ أسطر “أحبكِ” عليكَ خاتماً أول رواية لي، لقد كانت رواية سخيفة، ولكني بكيت بكاءً مراً عند كتابة كل سطرٍ من سطورها، كم أفتقد – يا بكر حواسيبي – البكاء أثناء الكتابة، السطور الجافة لا تروي العطش، وأنا لا أكتب سوى لأروي بعض العطش، أجد نفسي الآن – وقد تحسنت كتابتي بعض الشيء – عاجزاً عن إجابة كل هذا العطش، كل ما أفعله هو جلب المزيد منه.
في أحد الأيام – وأعتقد أنك تذكره جيداً – كنتُ على وشك ارتكاب حماقة لا توصف من خلالكَ، لقد ارتكبتها باستخدام حاسوب آخر محافظاً على طهرك، اكتشفتُ مؤخراً أنني أكره الصحافة، نعم الصحافة، وأكره ذلك التحقيق الذي كتبته بلوحة مفاتيحك – رحمها الله – وما جلبه من جنونٍ لم ينتهِ حتى الآن، الحالة تتفاقم، والآن بدأتُ ربما أكره الكتابة أيضاً، ربما السبب هو لوحة مفاتيح ذلك الحاسوب المحمول، أزراره رخوة، الكتابة سهلة جداً، استعصاء مفاتيحكَ يمنحني أجزاءً من الثانية للتفكير قبل كل كلمة أكتبها، أتمنى – كم أتمنى – لو كنتَ هنا حين قرأتُ أول مقالٍ عن روايتي، كان شعوراً جميلاً وددتُ – في ما بعد – لو عاصرتَه، الآن أنا عاجزٌعن الكتابة، أرمي ببعض الهراء كل حينٍ وحين ليتلقفه الآخرون، بتُ أقرأ كتباً أكثر، ومع كل كتابٍ أملك أموراً أقل لأقولها، ربما لم يكن لدي أصلاً ما أقوله، وربما كل ما أريد أن أقوله هو كتلك المواضيع التي تمر هنا بصمتٍ وكتمانٍ لا يطاقان.
لو أخبرتك كيف أقرأ كتبي الآن لقلتَ لي “كم كبرتَ يا مناف”، ولكنني لم أكبر، ما زلتُ مراهقاً يستل أوراقه التي جمعها لثلاث سنواتٍ كي ينقلها إلى الحاسوب الجديد، فقدتُ معظم هذه الأوراق الآن، وأرغب بتمزيق وحرق كل ما بقي منها، الحنين إلى كلمات سخيفة كتلك التي كنتُ أكتبها أمرٌ لا يطاق، تتصارع في داخلي رغبة الخلود مع رغبة الصراخ، تقتلني وحدتي بقدر ما يقتلني ضجيج الآخرين، الكتابة أمرٌ لا يطاق، وإنني أتجرأ – رغم كل تقصيري – أن ألقي باللوم عليكَ، لقد كنتَ شهياً، مغرياً بالكتابة، تتربع في صدر غرفتي كامرأة تنتظر من يهتك فتحات جسدها واحدة تلو الأخرى، فقط لو كانت الكتابة أقل إغراءً، لكنتُ الآن آخراً سوى ذلك المراهق، المراهق – الذي ركلك حين فقد ملفاته للمرة الأولى – لم يكبر، صار أكثر وحدةً، أكثر ألماً، وأكثر كتابة خلبية لا تقتل ولا تحيي أحداً.
صديقي العتيق، أنا حزين، وفي هذه الساعة المبكرة من الصباح – لا أتذكر إن أشعلتك قبل أم بعد أذان الفجر – لا أجد سواكَ لأبلغه ذلك، معظم الأسماء التي اعتدتَ عليها نيامٌ الآن، أو سجناءٌ، أو موتى، أو – وهو الأسوأ – قريبون أكثر من اللازم بحيث لا تبقى مساحة لأحرك فمي وأصابعي كي أتكلم، وحدتي مضنية، وكل التكنولوجيا التي تضخمت في غيابك وفاتك – لحسن حظكَ – معظمها ليست كافية لتمحي بعضاً من عزلتي، قوقعتي باتت أجمل، ويسكنها شخصٌ واحد فقط، ولكن ظلت قوقعة، لم تتسع، وربما باتت أضيق، لا يمكنني تمييز السبب إن كان بالفعل ضيق القوقعة أم زيادة وزني، ولكن المكان بات يلتهم من جسدي أكثر مما فعل في أي وقتٍ مضى.
لقد توقفتُ عن كتابة الشعر، وتقاعستُ كثيراً عن كتابة القصص القصيرة، خصوصاً تلك البوليسية التي فقدتُ أوراقها قبل شرائكَ، يقولون أن كتابتي تحسنت، نعم، ربما، ولكن بوحي بات أسوأ، وأنتَ تعلم – أكثر من أي آلة أخرى – كم كانت سطوري بوحاً أكثر منه كتابة، لقد توقفتُ أيضاً عن كتابة مذكراتي، محاولاتي اليائسة لإضافة معنىً إلى نهاراتي المتشابهة، يكاد الصمت يذبحني، وأشتهي لو تتسبب طاولتي الجديدة لي الجراح عند الكتابة لفتراتٍ طويلة كما هي الحال معك، خشبُ هذه الطاولة شرب الكثير من دمي، اليوم لا تشرب دمي الطاولات والحواسيب الرديئة، بل أنا أشربه وأبصقه، أحاول إجهاض محاولات التكاثر الوقحة داخل أوردتي، لقد أخبروني – قبل ميلادك بزمنٍ طويل – أن ذلك السائل حلو الطعم هو ما يبقيني في هذا المكان القذر الذي يدعونه الحياة، لقد بصقتُ حتى الآن ما يكفي لقتل أربع رجالٍ، ولم يتغير شيء، أستلذ بمذاقه، أفتح عيني وبي أملٌ أن يتغير ولو تفصيل واحد من تفاصيل المكان، عبثاً، سوى المزيد من الكتب المولودة ميتة، وبعض الأسلاك تتولى إدارة الأجهزة المتعددة التي تبتلع الكهرباء، لأهدرها على رسائل لن يجيبها أحد.
حاسوبي الطفل أبداً، لقد اشتقت لغبائك، أن تملك حاسوباً غبياً هو أمرٌ أفضل بكثيرٍ من أن تكون محاطاً بالبشر الأغبياء، أولئك بشر، لا يمكنك فصل الطاقة عنهم وتركهم يتعفنون تحت وطأة الشتاء، حاسوبي العزيز – الذي لم أطلق عليه اسماً حتى الآن – لقد اشتقتٌ إليك، كل ما حولي سواكَ أقل وزناً، وأكثر عجزاً عن قمع السعي القديم نحو السماء، تغذى جيداً ولا تسمح لهم برميكِ أو بيعك عند غيابي، أنتَ الآن صديقي الأخير، الذي أرفض رفضاً تاماً تركه يرحل ككل من سبقه من الآلات البشرية.