وبعد أن اقتنعنا أننا عاجزان عن توصيف الكثير من الأمور، اتفقنا على تشويشها، والابتسام في نهاية الحديث مدعين أننا الآن نفهم كل شيء. نتعانق، وأطبع القبلات على رأسها طول الطريق، وأنا مقتنع في داخلي أنني لا أفهم شيئاً، ولكن قبلة على الجبين أمام المارة لا يمكن أن تكون شيئاً سيئاً، أو عَرَضاً لشيءٍ سيئ.
نفس المكان، نفس الوضعية، نفس الأفكار، الارتباك أقل من واحدةٍ وأكثر من أخرى، وهي أجمل من واحدةٍ وأقل جمالاً من أخرى، ولكن لها تلك الشعيرات الصغيرة التي أعجز عن تجاهلها، أتذكر قولهم لي كل مرة أصف إحداهن بالحلوة؛ “يحلى وبرك”، هل بإمكان هذا الجزء من الكون أن يصبح أجمل؟ أم ربما يقصدون طعمه، جربتُ تذوقه مرتين أو أكثر، ثمانين ربما، لستُ واثقاً، ولكن أعتقد أن طعمه حلوٌ أيضاً.
نفس المكان، وفي لحظاتٍ قليلة بالكاد ألحظها نفس الزمان، كلهن أصبحن ذكريات، في الطرقات لم أعد أتابع الوجوه بحثاً عن وجهٍ أعرفه، أنا لا أعرف أحداً في هذه المدينة، أكنتُ عقلانياً أكثر من اللازم؟ أم خانتني جرأتي؟ أم أنني أعجز عن إزاحة كل الأصوات المترددة في رأسي، عن كل شيء لدي صوتٌ في رأسي، عشرات الفلاسفة السُذج يتكلمون سوياً عن مواضيعَ بالكاد أفهمها، وبالكاد يفهمونها، لا يهمهم سوى صناعة المزيد من الضجيج، لتقبل شفاهاً لا تملكها، أنتَ بحاجة الكثير من الصمت، بعض الموسيقا قد تكون جيدة، ولكن لا يعوّل عليها، ضرباتُ حظٍ قليلة لا تقول أي شيء.
الصمت معدومٌ في هذه المدينة، ولو كانت هنا منذ ساعتين أو أكثر، لجربت معي اهتزاز الأريكة، مرعبٌ دون صوتٍ يسبقه، ولكن ممتع، كالجنس المفاجئ في الصباح، كالشفاه الباردة بعد قذفٍ سريع، الصمتُ معدومٌ في هذه المدينة، وكل ما يمكنني تقديمه هو موسيقا من السهل تجاهلها وقادرةٌ – في الوقت نفسه – على إخفاء صوت الحرب، منذ قليلٍ طمأنتني صديقتي، قالت لي “صواريخ أرض – أرض، لا شي غير اعتيادي”، وبناءً على نصيحتها غادرتُ قوقعتي مواجهاً العالم بعيونٍ بالكاد تفهم ما ترى، وبالكاد تبحث عن أي مغزىً في ما ترى، ومنذ ذلك الحين، كل شيءٍ كان جميلاً.
لا أدري إن كان الوصلُ يعني الحرية، أم أنها السلوى تسكر القلوب، ولكنني واثقٌ أنني كنتُ أكثر عجزاً عن التنفس، وذلك يعني شيئَين، فإما رطوبة مفرطة أو سعادة مفرطة، أقول لها أن شيئاً بها قد صار أجمل، وتؤكد لي أنها لا تعرف ما هو، ولا يبدو ذاك الجزء الغامض من الكون مثيراً لحفيظة البحث عن الحقيقة في أي منا، كل ما يهمنا هو أن ينتهي الحديث ويبدأ آخر، نمارس اللعبة بأدق قواعدها، ولا نحيد عما قيل إنه يجلب السعادة، أنظر إلى عينيها وأعرف أن كل ما في ذهنها بعيدٌ عن هذا المكان، بعيدٌ جداً، وتعلم أيضاً أن ذهني مسافرٌ لمكان بعيد، ألمسها كل حين، لا أفكر بالتبريرات، لا أحد يطلب مبرراً، خذ ما شئت واتركني بسلام.
تقول لي أنها تشعر بتنفسي عميقاً، حتى إن رأسها كاد يسقط عن كتفي، أنا أشعر بشيءٍ مختلف، أشعر برأسها يحفر عميقاً في ذراعي، أشعر بعنقها يستفز خاصرتي بطفولية مستفزة، أعتقد أنني عاجزٌ عن حبها، وأعتقد أيضاً أنها عاجزة عن حبي، وهذا أجمل الأمور قاطبةً. كل شيءٍ منفصلٌ عندها، لكل شأنٍ زاوية في جدول أفكارها، لا يخرجن أحدٌ من زاويته، تحافظ ببراعة على نفسها مركزاً لكونها، كل شيءٍ آخر تفاصيل، حتى يدي المتسللة بحذرٍ ضئيل إلى مفصلها، تسرق لمسة أو لمستين وتهرب، تنظر ما جنته بلهفة طفلة مشردة، يخبو ضياؤها، وتصمت الحياة بظلمة من جديد، كنا متجاورين كمركزين لأكوانٍ متباينة، كل منا جلب كونه معه، وترك الحياة تتقلب بنار التنافر الذي باغتها، كوني وكونها كانا لوحة ترفض الانصياع لريشة واحدة.
شيءٌ ما فيها مختلفٌ اليوم ولا أدري ما هو، وربما غداً – أو بعد غد – سأفقد اهتمامي، ربما حين أفكر بنفسي قليلاً سأعرف أنني ربما هذه المرة – بسبب الكحول الكثيرة التي تناولتها سابقاً في نفس النهار – كنتُ مختلفاً، ورأيتُ الأمور بشكلٍ مختلفٍ، وتمكنتُ للمرة الأولى من رفع عيني عن شفاهها، لا لشحٍ في اشتهائها، بل لرغبة في إلقاء نظرة أخرى على ما تغير، شيءٌ ما أجمل في هذا النهار، ربما هي تحاكي محيطها الجميل، أو ربما تبثُ فيه قطراتِ اللون الأخيرة.
عزيزي الكاتب المغرور؛
أعرف كم يبدو مضحكاً أن أرد عليكَ من بريد قراءٍ اختلقته لتروج لموقعك، ولكني أجد نفسي عاجزةً عن تجاهل هذه القصة بالذات، ربما ستصر أنها ليست قصة قصيرة، يا صديقي أياً كان الطريق الذي تروي عبره للناس مغامراتكَ التافهة فإنها قصة قصيرة، تنتهي – عندك على الأقل – في نفس المكان، اسمح لي أن أخبركَ أن هذه السطور أيضاً مسروقة، ومني بالذات، وإني بتكراري لهذا الاتهام أكون فضحت للكثيرين عن هويتي، وربما علي أن أكون حذرةً في التفاصيل كي لا تقع في فخ الفضيحة الذي تتحاشاه لسنواتٍ الآن.
اسمح لي أيضاً أن أبلغك أنكَ ما كتبتَ ما كتبتَ سوى عني، وإنني واثقة أنكَ الآن ترغي وتزبد وتجهز أدلتك وروايتك الرسمية لتؤكد لي وجودها، وأنا لا أنكر ذلك، ولكني واثقةٌ من أنكَ لا تراها سوى كشاشة تعرض لكَ ملامحي، كزهرةٍ – وأعجب للطف تشبيهي – تبث رائحتي، أعلم أنني قد تركتُ أكثر من اللازم في ثنايا المكان، وأنني ضاعفتُ هواجسكَ، آسفة، أعتقد أنني ذكرتُ أكثر من اللازم، ولكنكَ تعرفني، لا أكتب لكَ بأقلام الرصاص.
عزيزي الكاتب المغرور، اعذر قلة تهذيبي، ولكنني أعتقد أنكَ تعتقد أنها تعتقد أنكَ ترى النور من عينيها، ولكن الجميع، أيها الثعلب الذي فاته المكر، يعلمون أن ذلك ليس صحيحاً، ويصمتون احتراماً للجهد الذي بذلته في تقديم كل معالم هذه الشخصية المختلقة، كصمتِ جمهورٍ احتراماً لجهود من قاموا بطباعة بطاقات المسرحية.
كف عن سرقة كتاباتي، كف عن الهروب إلى المكان الخاطئ، وإياكَ تصحيح أي من أخطائي (إن وجدت)…. محبتي.